أداء تمثيلي ممجوج يكفر أهل الفن ويقنع بعضهم بالاعتزال

القاهرة – استدعى البعض من المراقبين في مصر حالة الفنانين المعتزلين بداعي التدين على خلفية الجدل الذي أثاره مقطع بثه الداعية المصري عمرو خالد على صفحته على فيسبوك، وهو يدعو بجانب الكعبة لمتابعيه أثناء تأديته الحج، ليتسبب أسلوبه التمثيلي المفتعل في عاصفة من الاستهجان والسخرية.
المفارقة التي التقطها هؤلاء أن عمرو خالد ومجموعة من الوعاظ تسببوا خلال العقدين الماضيين في اعتزال عدد من الممثلين لمجال الفن ليتفرغ البعض منهم للوعظ الديني بالمنازل والتجمعات المغلقة، في حين يمارس من دفعوهم للاعتزال التمثيل الدعوي بشكل رديء لإبقاء الأضواء مسلطة عليهم.
كان عمرو خالد الذي ارتدى عباءة الداعية “المودرن” انخرط في مجتمعات النخبة والصفوة، واستطاع إقناع العديد من الفنانات بارتداء الحجاب واعتزال التمثيل، ونجح في اختراق البعض من الأندية الرياضية وأسهم في ضم بعض نجوم الكرة لجماعة الإخوان.
كشف عدد من دارسي الحالة الإسلامية عن تخريب مقصود لمجالي الدعوة والفن وقفت خلفه في الأساس جماعة الإخوان التي انتمى إليها عمرو خالد وعدد ممن أطلق عليهم “الدعاة الجدد”، بهدف أخونة تلك المجالات واستتباع رموزها تنظيميًا للجماعة.
وأفضى مسعى الجماعة إلى واقع دعوي يعاني من السطحية والانفعالية العاطفية دون امتلاك مقدرة على المعالجة الفكرية المعمقة للقضايا والملفات المهمة، علاوة على حرمان مجال الفن من شخصيات رجالية ونسائية ذات وزن وضمها لكيانات التدين الشكلي الذي ساد خلال الفترة الماضية.
البعض من الخبراء ألمح لهدف الإسلام السياسي في فرض نمطه على مجالي الدعوة والفنون، عبر أوصياء يفرضون فرمانات على كل من يظهر اهتماما بالدين داخل الوسط الفني، فيفرضون عليهم الانسحاب باسم نقاء الالتزام ومن ثم العيش في عزلة عن التفاعلات المجتمعية والتحول من الفن إلى الوعظ.
عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي لم تشهد هذا الانتشار الواسع للتطرف ولا تلك القطيعة بين الفن والدين
وخسرت الساحة الفنية العديد من الأسماء التي تركت الساحة الفنية في عز عطائها، وهو ما أربك الواقع الثقافي المصري، عندما ظهرت مقولات وتوجهات تفكك الانسجام والعلاقة التكاملية التي كانت سائدة بين الدين والإبداع، فمن أراد إظهار التدين ابتعد عن الساحة الثقافية والفنية التي صارت في نظر منتسبي جماعة الإخوان ومؤيديها قرينة الإلحاد والتحلل الأخلاقي.
آثر عديد من الجادين والهادفين للارتقاء الفني العزلة، دون دراسة مركزة للقضية، في وقت ساد التسطيح والإنتاج التجاري الساحة الفنية، وبذلك نزع العمق والإبداع الحقيقي من الساحتين الفنية والدعوية.
وشدد البعض من النقاد على صعوبة العثور على موهبة فنية حقيقية فضلًا عما اكتسبه من اعتزلوا الفن بداعي التدين من خبرات واسعة عبر تجارب ممتدة، أنضجت أفكارهم وطورت أداءهم.
وأوجد الاشتغال المحدود بالوعظ في المساجد والبيوت من قبل فنانين وفنانات معتزلات، في مقابل الانتشار الواسع لظاهرة الدعاة الجدد بأدائهم الممسرح، حالة من العوز في فضاء التلقي المصري، فالقضايا المصيرية الملحة حرمت من أن يتبناها مبدعون جادون، وكذلك حرمت من المعالجة الفكرية المعمقة مع شيوع المعالجات العاطفية عبر دعاة حاولوا الترويج لأنفسهم من خلال أداء تمثيلي ركيك للقصص الوعظية وليس بامتلاك ناصية الفكر.
الوصاية الأبوية من قبل وعاظ وقادة جماعات على الموهوبين من الفنانين والمبدعين غير موجودة بالغرب، إنما يمتلك المبدعون والفنانون هناك حاسة نقدية نافذة مع استقلالية تمنحهم القدرة على امتلاك قرارهم، بمواصلة طرح رؤاهم وما طرأ عليها من نضج وتحوّلات داخل إطار الفن وبتوظيف أدواته وليس بالانفصال عنه.
أكد عثمان عبدالرحيم القميحي الأمين العام للهيئة العالمية لجودة الدعوة الإسلامية وتقييم الأداء، ضرورة حضور الطرح الحضاري والمعالجات الفنية والثقافية الراقية والعميقة وحضور الطرح الفكري الحضاري في الساحة الدعوية.
وشدد القميحي لـ”العرب” على أن الجماهير تنجذب بطبيعة الحال لكل ما هو راق بما يتيحه من متعة ذهنية وفكرية وبصرية تغطي على الفقاعات التي تكثر في غياب الفن الراقي والدعوة الجادة.
صار الداعية الديني ينافس الممثلين في جني الأرباح الضخمة، وهو ما نتج عنه ما هو واقع من إسفاف وسطحية في الطرح الديني وفي الساحة الفنية
شدد الخبراء على أن عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي لم تشهد هذا الجمود ولا الانتشار الواسع للتطرف والغلو ولا لتلك العزلة والقطيعة بين الفن والدين، والسبب عائد لحضور الفن الراقي وكذلك الطرح الدعوي الراقي عبر جيل من المبدعين والمفكرين في كلا المجالين يندر تكراره.
وهو ما يتيح للجمهور المفاضلة بين الغث والثمين والرديء والجيد، فكانت الأذواق تتجه في الغالب إلى الإشباع الطربي والفني والثقافي في وجود مشاهير ومبدعين كبار يشغلون الجماهير بما هو أرقى وأنفع ويصدونهم بمنتوجهم الفني المحبب عن تعاطي البضاعة المغشوشة في السوق، ما ينطبق أيضًا على الإنتاج الدعوي والفكري حيث لم يكن هناك الواعظ الممثل إنما الداعية المفكر الرزين.
وأشار خبراء في الإعلام إلى أن القيم العليا والمبادئ الإنسانية تحتاج تقديمها من خلال الإعلام الأكثر تأثيرًا وانتشارًا عبر الفضائيات والدراما والمسرح والسينما من خلال أعمال تحمل الفكرة والقيمة والرسالة وتقدم المتعة والبهجة معًا، ليصبح حضور أصحاب الأهداف الكبيرة والساعين للرقي متسقًا بالعصر وممتلكًا أدواته ومشتبكًا ومتفاعلًا مع الواقع وليس منفصلًا أو متخلفًا عنه.
وألمح الفنان المصري عبدالعزيز مخيون إلى أن الفنان الحقيقي بمواصلته نضاله ومسيرته في مجاله الفني والإبداعي أقدر على تحقيق الأهداف الكبيرة المتعلقة بالأبعاد الحضارية والإنسانية، معللًا ما جرى من عزلة وانفصام وتصحير للواقع الفني والفكري بتدخل تيارات لها أهداف ومصالح سياسية.
ولفت مخيون لـ”العرب” إلى أن مجال التأثير بالمشاعر والأحاسيس والوجدان والأفكار أرحب وأوسع تأثيرًا من الخطاب الوعظي التقليدي المباشر، حتى لو امتلك هذا الفنان أو ذاك نافذة في فضائية من الفضائيات كمذيع أو مقدّم برامج.
وشدد مختصون على ضرورة المزاوجة بين الإصلاح والتجديد في مجالي الدين والفن، ويرون أنه من غير المقبول أن يتم الإصلاح في جانب بينما يستمر التسطيح والجمود على جبهات أخرى، خاصة إذا كانت تلك الجبهات مرتبطة بالمجالات الأكثر حساسية وفاعلية كالمجال الفني.
ويجد متواضعو الموهبة في المجالين فرصة الفراغ الذي يتركه المفكرون ليحققوا الشهرة والنجومية والثروات الطائلة، وصار الداعية الديني ينافس الممثلين في جني الأرباح الضخمة، وهو ما نتج عنه في نهاية الأمر ما هو واقع من إسفاف وسطحية في الطرح الديني وفي الساحة الفنية التي تعاني في مجملها من هيمنة الأعمال الهابطة المبتذلة.
تغيير خارطة التلقي لدى الجمهور المصري أحدث انقلابًا في المعايير والمفاهيم؛ فصارت الراقصات ومغنو الأفراح في الأحياء الشعبية هم قادة الرأي العام ومن يملكون مفاتيح التوجيه، والأعلى صوتًا ومشاهدة والأكثر جلبًا للإعلانات، ومن جهة الخطاب الديني شاع استهلاك الخطاب السطحي الذي أرضى منتجي البرامج الدينية الممسرحة، وأرضى تيار الإسلام السياسي الذي أبعد الفكر الديني عن المعالجة الناجزة للإشكاليات المتعلقة بتدخله في الشأن العام وخلطه بين السياسي والعقدي.