أحمد زايد.. عالم اجتماع مصري في اختبار تجديد دماء المكتبة

مكتبة الإسكندرية حائرة بين السلطة السياسية والمثقفين.
الأحد 2022/07/24
أمام تحديات في غاية الأهمية

القاهرة - فتح تعيين عالم الاجتماع المصري أحمد زايد مديرا لمكتبة الإسكندرية قبل أيام، باب الجدل حول التوظيف السياسي للمكتبة العريقة وآمال النخبة الثقافية. وزاد الجدل مع التباين الحاصل في الرؤى بشأن مدى قدرة المسؤول الجديد على إعادة الاعتبار إلى دورها الحيوي الشامل، والذي تراجع في عهد مديرها السابق مصطفى الفقي بسبب اقترابه الشديد من السلطة، بما أثر على دورها التنويري وجاذبيتها الحضارية لدى شريحة من المواطنين حرصوا منذ ظهورها قبل نحو عقدين على متابعة أنشطتها.

جاء زايد أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة البالغ من العمر 74 عاما من بعيد، ومن خارج الحلقات الضيقة للنخبة التي راجت فيها بورصة الترشيحات، حيث ازدحمت الأشهر الماضية بقائمة كبيرة من الأسماء، بينها ضباط جيش ودبلوماسيون، ومثقفون أكثر قربا منه للسلطة الحاكمة.

وانتهت ولاية الفقي في مايو الماضي بعد خمس سنوات قضاها لم تشهد ما حصدته المكتبة من زخم في فترة رئيسها الأول إسماعيل سراج الدين من 2002 – 2017، وهو ما جعل البعض يربطون بين النظام الحاكم ومساحة الحركة المتاحة أمام مكتبة الإسكندرية التي أعادت الاعتبار للمدينة الساحلية المطلة على البحر المتوسط كمنارة للثقافة في مصر والمنطقة، فقد تجاوز دورها أطره المحلية.

يتولى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي رئاسة مجلس أمناء المكتبة المكون من مصريين وأجانب، منوط به اختيار مديرها كل خمس سنوات أو التجديد له أكثر من مرة، ما يمنحها أهمية سياسية وثقافية معا، فهي أكبر من مكتبة مهتمة بنشر التنوير أو مكان لعقد المؤتمرات والندوات، ينظر لها على أنها بوتقة تنصهر فيها الثقافات.

استمدت المكتبة جزءا كبيرا من أهميتها بسبب تحولها من ملتقى لاجتماعات المثقفين إلى مكان تقصده فئات مختلفة وجدت بها أنشطة متعددة، ويتم دوما تسليط الأضواء على مديرها العام لما تملكه المكتبة من إمكانيات أضفت على أنشطتها رونقا من نوع خاص، دفع فئات متباينة إلى الاهتمام بما يدور داخلها وخلف الكواليس.

مؤيدون ومعارضون

زايد يقدم إلى هذا المنصب الحساس من بعيد، ومن خارج الحلقات الضيقة

أدى التفتيش في السيرة الذاتية لزايد إلى انقسام بين من يرون أهليته لتولي هذا المنصب الذي يمكن أن يعيد إلى المكتبة حضورها في الوجدان العام، بعد أن شهدت فترة الفقي تراجعا في أنشطتها، وذلك من واقع سيرة زايد كعالم اجتماع ومثقف بارز يتمتع بعلاقات جيدة مع دائرة واسعة من المثقفين، وبين من يرون المنصب نوعا من الترضية أو مكافأة نهاية الخدمة لأحد المسؤولين.

تعزز هذا الارتباط مع اختيار مديرها السابق الذي شغل مناصب رسمية عدة، بينها سكرتير الرئيس المصري الراحل حسني مبارك للمعلومات، وسفير القاهرة سابقا في فيينا ومندوبها في الجامعة العربية، ناهيك عن نشاط ثقافي وإعلامي بارز مكنه من امتلاك مروحة واسعة مع المثقفين لم تستغل بسبب المناخ العام الذي ضاق فيه هامش الحريات أمام المبدعين بشكل انعكس على دور مكتبة الإسكندرية.

يأتي زايد في أجواء تشهد فيها مصر بوادر انفراجة سياسية في الفضاء العام وملامح تميل إلى رغبة رسمية في زيادة دور المثقفين، الأمر الذي يمنح المدير الجديد طاقة أمل نحو عودة الحياة إلى مجتمع مكتبة الإسكندرية، والتي تحولت في فترة ما إلى كتلة ضوء كان يأتي إليها مثقفون من دول مختلفة على نطاق واسع، وتم فيها تبادل الكثير من الأفكار، وانتعش بين جدرانها حوار الحضارات.

ويرى المؤيدون لتوليه إدارة مكتبة الإسكندرية نموذجا للمثقف الموسوعي الذي يستطيع وقف التناقضات بين حاجات النخبة الثقافية وبين الصدام مع السلطة السياسية، فالرجل يملك رصيدا جيدا في مجال التنوير والوعي والدور المجتمعي للمثقف تؤكده كتاباته المنتظمة في صحيفة الأهرام المصرية، ولم يكن بعيدا عن السلطة وإن لم يتبوأ مناصب رسمية الفترة الماضية، غير أن مقالاته تؤكد أنه أحد داعميها.

التحفظات على اختيار زايد ترجع إلى أنه كان عضوا في لجنة السياسات التي ترأسها جمال مبارك
التحفظات على اختيار زايد ترجع إلى أنه كان عضوا في لجنة السياسات التي ترأسها جمال مبارك

يقول الرافضون إن نهمه للسلطة قد يكبّل حركته ويقلل من ثقة المثقفين في تحركاته، ويمكن أن يعيد تكرار الدور الذي لعبه سلفه في محاولات تدجينهم وإدخالهم ما يوصف في الأدبيات المصرية “الحظيرة”، حيث منحت التربية السياسية الفقي درجة عالية من الإتقان في عدم المجاهرة بأهداف المكتبة في حسابات السلطة، بينما خبرة أحمد زايد المحدودة في المجال السياسي قد تجعله يغالي في موالاة السلطة.

أخذ من أبدوا تحفظا على اختيار زايد أنه كان عضوا في لجنة السياسات التابعة للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في عهد مبارك، ورأسها ابنه جمال، والتي تحولت إلى منتدى الهدف منه رسم التصورات الحاكمة للدولة في المستقبل وتهيئة المجال لتولي الابن منصب والده، ثم انتهى دورها مع ثورة يناير 2011 بسقوط نظام مبارك نفسه.

لم يعدم العديد من أعضاء هذه اللجنة، ومن بينهم زايد، وسيلة للاقتراب من النظام المصري الحالي من منطلق الشغف والمصالح المتبادلة، فالسلطة وجدت في بعضهم أدوات يمكن الاستفادة منها في مجالات عدة، وهم وجدوا فيها ملاذا لنسيان ماضي مبارك والانخراط في النظام الجديد والعمل على دعم شرعيته، كل في مجاله.

براغماتية المثقف

زايد لم يكن بعيدا عن السلطة وإن لم يتبوأ مناصب رسمية، غير أن مقالاته تؤكد أنه أحد داعميها. لذلك يقول منتقدوه إن نهمه للسلطة قد يكبّل حركته ويقلل من ثقة المثقفين في تحركاته

بزغ البعض من المثقفين ضمن أكثر الفئات براغماتية، خاصة ممن لا يمتلكون موقفا سياسيا بعيدا عن توجهات النظام الحاكم الذي لم يتمكن من أن يفرز نخبته الخاصة حتى الآن، وممن لا يثيرون اشمئزاز المصريين، فدخول زايد حلبة لجنة السياسات والخروج منها قسرا لم يصاحبه ضجيج، مثل الذي صاحب الفقي، ومع ذلك تمتع الأخير بأريحية بين المثقفين خلال فترة توليه إدارة المكتبة.

ولم تعد خلفية من يندرجون ضمن القريبين من طاحونة نظام مبارك أو خدموا بالقرب من دوائره السياسية تثير قلقا أو مخاوف المثقفين الآن، فعدد كبير منهم اندمجوا في أروقة النظام الراهن، ومن احتفظوا بمسافة لم ينلهم العقاب.

ولذلك لا يعول المثقفون كثيرا على جزئية القرب أو البعد من النظام الأسبق، فالمحك الرئيس المستوى الذي يظهر عليه المثقف عندما يتولى منصبا رفيعا، وهو اختبار دخله زايد عندما تولى مهام منصبه على رأس مكتبة الإسكندرية.

تقول رؤية موضوعية لعملية الاختيار إنها إشارة مهمة على أن النظام المصري لم يعد أثيرا لحلقات ضيقة يُختار منها غالبية المسؤولين في الدولة، وتتعلق بضباط الجيش والشرطة وفئة من الدبلوماسيين وشريحة من القضاة، فمجيء زايد من خارج هذه الحلقات، بل من داخل النخبة الثقافية نفسها، من المؤشرات الجيدة التي تؤخذ على أن صدر النظام المصري بدأ يتسع وأنه لم يعد ضيقا تجاه أو نافرا من المثقفين.

خيارات جديدة

الرئيس السيسي يتولى رئاسة مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية المكون من مصريين وأجانب، ما يمنحها أهمية سياسية وثقافية معا
الرئيس السيسي يتولى رئاسة مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية المكون من مصريين وأجانب، ما يمنحها أهمية سياسية وثقافية معا

يمكن أن يشهد الفضاء في مصر انفتاحا تستفيد منه مكتبة الإسكندرية فتعود إليها أنشطتها التي تتصارع فيها الأفكار على أرضيات متباينة، بدلا من الانحسار الذي غلب على كثير من أدواتها خلال السنوات الماضية، ما جعل عددا كبيرا من المثقفين يحجمون عنها فيما يشبه مقاطعة لأنشطتها التي كانت على علاقة وثيقة بأجندة السلطة.

ينتظر قطاع من المثقفين أن يلعب وجود زايد دورا في تغيير الانطباعات السلبية التي تولدت عن أن مكتبة الإسكندرية إحدى أذرع السلطة الحاكمة في ترويضهم ويستغل تراكمه المعرفي في علم الاجتماع السياسي ليعيد تصويب دور المكتبة التي تحولت إلى منبر مواز لما تقوم به وزارة الثقافة أحيانا، وربما تفوقها بسبب تبعيتها لرئيس الدولة وما توفره العلاقة من حصانة متعددة الأشكال والألوان في المجتمع المصري.

يستطيع زايد أن يعيد تسليط الأضواء على مكتبة الإسكندرية إذا نجح في إيجاد هامش مستقل لحركتها الثقافية وعدم تجييرها كأداة من أدوات النظام الحاكم لفرض سيطرته على المثقفين، ويتوقف ذلك على مدى ما يظهر من انفتاح في الفضاء العام، لأن المكتبة كيان ليس مستقلا، وما يصيبه سوف يحدث ارتدادات عليها.

الفقي المدير السابق لمكتبة الإسكندرية شغل مناصب رسمية عدة، بينها سكرتير الرئيس المصري الراحل حسني مبارك للمعلومات، وسفير القاهرة سابقا في فيينا ومندوبها في الجامعة العربية

كانت فترة رواج المكتبة في السنوات الأولى من تولي مديرها سراج الدين، والتي شهد فيها المناخ السياسي العام انفتاحا مكّن المثقفين من طرح أفكارهم بدرجة عالية من الحرية بين جدران المكتبة، وهو ما تلاشى طوال عهد الفقي تقريبا.

يعلم من يتابعون أنشطة مكتبة الإسكندرية أنها ليست منفصلة عن التوجهات السياسية للنظام الحاكم، بل على صلة وثيقة به، لكن يمكنها أن تتمتع بدرجة استقلالية الفترة المقبلة في ظل ما يتم الحديث عنه من انفتاح وتحرك قطار الحوار الوطني.

تحتاج هذه المسألة أن يظهر زايد حنكته ورشادته وقدرته على تمديد خيوط التواصل لأبعد مدى مع المثقفين من خلال تنظيم سلسلة من المؤتمرات والحوارات تمثل بوابة للعصف الذهني لما تتمناه النخبة للجمهورية الثالثة التي يريدها الرئيس السيسي، فطبيعة الدور الفضفاض الذي تقوم به المكتبة يؤهلها للقيام بمهام عديدة، شريطة أن تحصل على هامش جيد من الحرية في تحديد أجنداتها.

اكتسبت مكتبة الإسكندرية شهرتها من نجاحها منذ البداية في تقديم نفسها على أنها منارة إقليمية وربما عالمية مستقلة، وهي فكرة وجدت تجاوبا من مثقفين ينحدرون من بلدان مختلفة، منحت المكتبة مكانة لا تضاهيها مؤسسة ثقافية أخرى في مصر.

ويقف مديرها الجديد أمام تحديات في غاية الأهمية، وتكمن المعضلة في قدرته على المواءمة الدقيقة بين تطلعات السلطة وطموحات المثقفين، والوصول إلى صيغة تحقق لكل طرف الحد الأدنى من أهدافه، وهو الطريق الذي سوف يعبر بزايد إلى برّ الأمان، أما إذا شعرت النخبة الثقافية بانحياز سافر من قبله للسلطة سيتحول لمجرد اسم مر على رأس المكتبة وحصد مزاياها المادية دون أن يحصل على نظيرتها المعنوية.   

8