أحمد أويحي رجل دولة جزائري يرفض خطاب الإسلاميين وانتهازية الليبراليين

أبوظبي - الخطاب السياسي في الجزائر، من نظام الحكم ومن المعارضة، يحاول تقديم إجابات للتساؤلات الكبرى، لكنها لا تتضمن رؤية، تؤسس عليها مشاريع يمكن التعويل عليها لدفع البلاد حول ديناميكية تؤهلها لمواجهة التطورات المقبلة المحلية والإقليمية والدولية.
كما أن ذلك الخطاب بعيد عن التفاعل الشعبي أو المجتمعي من ناحية التأثير الإيجابي، في ظل انتقاد متواصل لنظام الحكم وللمعارضة ولممثلي الشعب في البرلمان وللجيش ولكل مؤسسات الدولة. ولهذا من الصعب أن تتغيَّر المواقف داخل الجزائر، وأقصد هنا مواقف الشعب، وذلك حسب الطبيعة النفسية للشعب الجزائري، وهي التي تشكّل “الأنا الجمعي”، إلا بظهور قائد ملهم، أو زعيم جامع، ولو تتبّعنا حركة المجتمع الجزائري منذ الاستقلال، لوجدناها ذات صلة بدور القائد أو الزعيم، الذي يُفجّر طاقة الشعب وعبقريته، والشعب هنا لا يعنيه إن كان القائد عسكريا أو سياسيا أو مدنيا.
زعماء
بالنسبة إلى التفاعل بين الشعب والقائد من منطلق الزعامة والقيادة نجد على المستوى العسكري هواري بومدين، واليامين زروال، وبالنسبة إلى علاقة الشعب الحميمة بالزعيم الحاكم من منظور سياسي تبدو جلية أمامنا شعبية أحمد بن بلة، ومحمد بوضياف، وعبدالعزيز بوتفليقة، وعلى المستوى الديني نجد عباسي مدني ومحفوظ نحناح.
وإذا استثنينا من التجربة الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، لأسباب كثيرة، من أهمها أن تجربته في الحكم لم تنته بعد، وأنه، إلى الآن، يمثل حالا من التوازن بين عدة أطراف، وهو باختصار عبارة عن كثير من الماضي المتراكم. وقليل من الحاضر الفاعل، ليس على مستوى التغييرات والولاء، وإنما على مستوى توقيف زحف جماعات الفساد.
البحث عن قيادة
رغم ذلك كله، فإن الرئيس بوتفليقة يحظى بشعبيّة أكبر مقارنة بغيره من الرؤساء السابقين، باستثناء بومدين، وهو بذلك يكسر القاعدة المتعارف عليها، والمختصرة في أن شعبية الزعيم السابق منافسة وأحيانا قاتلة لشعبية وتفاعل ومكانة الزعيم اللاحق، فالرئيس اليامين زروال أقل زعامة من الرئيس الراحل هواري بومدين، وشعبية محمد بوضياف، كانت أقل من شعبية أحمد بن بلة، ومحفوظ نحناح أقل شعبية من عباسي مدني.
|
الجزائر اليوم، اعتماداً على تجربتها السابقة، في حاجة إلى زعيم سياسي يكون ملمّا بكل التجارب السابقة، ومضيفا لها من خبرته ودوره، وكثير من السياسيين الجزائريين يحاولون اليوم أن يبدوا فاعلين، وقد تكون لهم تجارب ثرية في العمل السياسي، التنظيمي ـ الحزبي، أو أثبتوا أهمية وجودهم في مؤسسات الدولة، عبر مختلف المواقع، لكن قلة تلك التي تملك رؤية سياسية وتجربة محلية ودولية، وقارئة للتاريخ، ومتابعة للسياسة الدولية، ومن تلك القلة يظهر أحمد أويحي، مدير ديوان رئيس الجمهورية الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي.
من خلال سيرته الذاتية يبدو أويحي الأوفر حظا لقيادة الجزائر في المستقبل القريب، بمقاييس الحقائق السياسية وليس بمقاييس الواقع الحالي الذي تتبارى فيه شخصيات لا يكمن مقارنتها به، وهي إمّا بنت شرعية أو غير شرعية للماضي، أو دخيلة عن الواقع، قد تكون لها شعبية أكثر من أويحي نتيجة للمناورات والتحالفات، لكن الجزائر تعاني من أزمة فكرية وليست سياسية، ما يعني أن من سيقودها في المستقبل المنظور عليه أن يكون صاحب مشروع سياسي، مؤسس على رؤية فكرية خلاقة، وهو ما ظهر في الخطاب الطويل الذي ألقاه أحمد أويحي، في السادس عشر من يوليو الماضي في وهران، خلال إشرافه على افتتاح الجامعة الصيفية الـ17 للاتحاد العام للطلبة الجزائريين.
في تجربة أويحي الحياتية ما يؤهله لقيادة الجزائر سواء تعلّق الأمر بمستواه الدراسي، فهو خريج المدرسة العليا للإدارة بالجزائر ومتحصل على شهادة الدراسات العليا في العلوم السياسية من جامعة الجزائر، أو من ناحية تقلده للعديد من المناصب ومعاصرته لكل رؤساء الجزائر، باستثناء الزعيم الراحل أحمد بن بلة.
عملياًّ، تتميز حياة أويحي السياسية بالثراء، فهو من السياسيين الجزائريين القلائل، الذين جمعوا بين المعايشة الطفولية للثورة، إذ لم يتجاوز عمره العاشرة عند الاستقلال، وبين التكوين الجامعي، وبين العمل السياسي، الذي لم ينقطع لفترة تجاوزت الأربعة عقود، قضى ما يقارب العقدين منها في العمل الدبلوماسي، بدأها بكاتب للشؤون الخارجية عام 1975، وفي 1981 عيّن مستشارا للشؤون الخارجية بسفارة الجزائر بأبيدجان، وفي 1984 أصبح مستشارا بالبعثة الجزائرية الدائمة لدى الأمم المتحدة. وفي 1988 أصبح ممثلا مساعدا بمجلس الأمن.
وبعدها بعام واحد، أي في 1989 أصبح مستشارا بديوان وزارة الشؤون الخارجية، ثم مدير عام “أفريقيا” بالإدارة المركزية لوزارة الشؤون الخارجية في 1990، وسفيرا لبلاده في مالي عام 1992، ثم كاتب دولة مكلف بالتعاون والشؤون المغاربية في 1993.
الإلمام بمكانة الجزائر
تعدُّ مسيرة أويحي السابقة المرحلة الأولى من حياته العملية، وفيها تمكَّن ـ عبر العمل الدبلوماسي ـ من الإلمام بعلاقة الجزائر ومكانتها ودورها دوليا، وهي مرحلة تخصُّ العمل الخارجي للدولة الجزائرية.
الحملات التي تشن ضده على خلفية أنه يسعى ليكون رئيسا للجزائر في المستقبل فاشلة لا ريب، ليس فقط لأن الوصول إلى أعلى هرم السلطة من حق كل الجزائريين، فما بالك بقائد مثل أحمد أويحي؟ ولكن لأنه أثبت خلال السنوات الماضية قدرته على صناعة الفعل السياسي داخل السلطة وخارجها
وعلى خلاف قادة الأحزاب الجزائرية الأخرى، التي تعمل على تطويع الدولة ومؤسساتها لصالح أجندتها ومصالحها، فإن أحمد أويحي طوّع نفسه وحزبه لخدمة الدولة الجزائرية، وحين اقتضت المصلحة الوطنية أن يخدم البلاد في رحابتها بعيدا عن ضيق الأحزاب ومصالحها كان من السبَّاقين لذلك.
بين السلطة والمعارضة
عرف أويحي بتمكنه من الانتقال بين السلطة والمعارضة، وفي الحالتين أثبت أنه رجل دولة من الطراز الأول. ولأنه على النحو السابق، يهاجم اليوم من قادة الأحزاب، ومن المنافسين له داخل السلطة.
الحملات التي تشنُّ ضدّه على خلفيّة أنه يسعى ليكون رئيسا للجزائر في المستقبل فاشلة لا ريب، ليس فقط لأن الوصول إلى أعلى هرم السلطة من حقّ كل الجزائريين، فما بالك بقائد مثل أحمد أويحي؟ ولكن لأنه أثبت خلال السنوات الماضية قدرته على صناعة الفعل السياسي داخل السلطة وخارجها، بما يخدم المصالح العليا لبلاده بصمت، أو بتصريحات قليلة ومقتضبة ومركزة، وبعمله الدؤوب وتجربته الثرية وقراءاته المتنوعة ورؤيته الواعدة، فقد يحقق طموحه في منصب الرئيس إن سعى إليه، وذاك حق مشروع.