أحداث الساحل السوري.. بذور انقلاب جهادي على الشرع

القاهرة - خيّم الغموض على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى مقتل المئات من المدنيين بمناطق متفرقة من الساحل السوري، أغلبهم من الأقلية العلوية، بالنظر إلى أن مصير الترويج لتمرد علوي هو إيقاظ النزعة الداعشية النائمة داخل الجهاديين المسيطرين على مفاصل القرار في دمشق. وبعد قرار حلّ الجيش وجميع الأجهزة الأمنية التي هيمن عليها العلويون وتسريح الآلاف منهم خدموا في هذه المؤسسات، بدا أن السيناريو العراقي مرشح لاستنساخه في سوريا، حيث أدّى هذا الإجراء في الحالة العراقية إلى اندلاع التمرّد والثورة المضادة.
والبعض من العلويين مسلحون ولديهم القدرة على القتال، لكن يصعب تصور أن مجموعات منهم لديها الإرادة لتنظيم تمرد وانقلاب على السلطة الجديدة لاستعادة الحكم والنفوذ، خاصة أن أحداث الشهور الأخيرة أثبتت أن الطائفة العلوية لم تقاوم وتجنبت التعبئة عندما كان نظام بشار الأسد ينهار كي لا تعطي ذريعة لمن يخطط لإشعال اقتتال طائفي.
وما كان يحفز العلويين على التماسك هو قدرة الرئيس السابق بشار الأسد على القتال ضد المعارضة المسلحة بمساعدة إيرانية وروسية، وهو المظهر الذي تدرج في مراحل الضعف وصولًا في نهاية المطاف مع سقوط النظام إلى التفكك والاضمحلال.
ومن المنطقي أن يحصل اختراق طائفي من قبل جهاديين سنّة ومتشددين داخل هيئة تحرير الشام ناقمين على تحولات أحمد الشرع وتراجعه عن تعهداته السابقة بشأن تحكيم الشريعة، عبر تضخيم حدث فردي داخل المناطق العلوية في الشمال الشرقي الساحلي والجبلي، بهدف استفزاز الحالة العلوية التي ظلت مستقرة نسبيًا لفترة طويلة. ودل على أن هناك رغبة لدى جهاديين سنّة في استفزاز المجتمعات العلوية ودفعها نحو إبداء التذمر والاحتجاج وتاليًا افتعال أي مظهر مسلح يبرر رد الفعل القمعي من قبل السلطة الناشئة.
والحدث الرئيسي الأجدر بالاهتمام والتقصي ليس وجود تمرد علوي يدرك الجميع – لو صح حدوثه – أنه جالب لهجمات انتقامية واسعة النطاق، إنما وجود تمرد جهادي سنّي متشدد ناقم على لمسة الشرع التي خفّت وتلطّفت كثيرًا في ما يتعلق بمختلف الملفات الإشكالية في أوساط الجهاديين، وهدفه هو إجبار القيادة الجديدة على تشكيل الدولة بما يتماشى مع الأيديولوجية الإسلامية المتشددة.
◙ وراء أحداث الساحل السوري سلسلة من الأفعال والمواقف بدرت عن الشرع واعتبرها الجهاديون خيانة لهم وسيرًا في طريق نهايته
ولا ترغب المجموعات المتشددة النافذة داخل هيئة تحرير الشام في سماع قائد الجهاديين ورئيس الدولة الجديد (أحمد الشرع) وهو يستبدل مصطلح الشريعة بمفردة القانون وأن يتحدث عن التمثيل العادل لمختلف الطوائف في البرلمان المزمع إجراء انتخابات لعقد جلساته، بديلًا عن دولة الخلافة وسلطة أهل الحل والعقد.
واستدعت المجموعات التي تعتنق الأيديولوجيا الأكثر تطرفًا صورة وأساليب أبومصعب الزرقاوي (قائد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) صاحب امتياز العمليات الوحشية المروعة ضد الأقليات المذهبية، ليطغى على صورة وأساليب أحمد الشرع المُداهنة. ولا يستبعد الجهاديون من رفقاء الشرع (أبومحمد الجولاني) انقلابه على نهج الإسلام السياسي وتحوله إلى العلمانية بعد أن تكرر انقلابه على مناهج وولاءات داعش والقاعدة سابقًا.
وعزّز من هواجس ومخاوف المجموعات المتشددة داخل السلطة الجديدة تصريحات أحمد الشرع المتكررة لوسائل الإعلام وتوجيهاته التي عكست تخفيفه من خطاب المنهج الجهادي، وبوادر تبنّ للديمقراطية وتمثيل مختلف الطوائف في الحكم عبر (حكومة تمثيلية) وتدشين نظام حكم أشبه بنموذج رجب طيب أردوغان في تركيا.
ويخشى الجهاديون داخل هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل المسلحة المتحالفة معها أن تأتي مرحلة لا يجدون فيها أنفسهم بالمشهد الذي يتنكر لأدبياتهم، على وقع إظهار الشرع وجها جديدا مختلفا عن وجوهه السابقة.
وزاد توجسهم عندما أصبح أحمد الشرع يتحدث كأحد العلمانيين عن تطبيق القانون وليس الشريعة، وعن التعددية والتنوع والتمثيل وليس الحكم الإسلامي بمفهومه الأحادي ممثلًا في الأمير والخليفة وأهل الحل والعقد، وعن عدم فرض العبادات وأوامر الدين عبر سلطة الدولة.
ولتكرار انقلابات الشرع وكثرتها (أبومحمد الجولاني) على ماضيه حيث انقلب على داعش وأعلن الولاء للقاعدة ليسانده ضد تنظيم الدولة، ثم خان ولاءه للقاعدة ليضع قدمه على أول طريق السلطة، يخشى الجهاديون من رفاق دربه أن يكون الدور عليهم وأنه حان أوان انقلابه ضدهم.
وعمد الجهاديون لقطع الطريق أمام الرئيس السوري الجديد بإجباره على العودة إلى وجه أبي محمد الجولاني قائد فرع القاعدة في سوريا الذي تحدث مرارًا عن تطبيق الشرع وإقامة دولة الإسلام، والكف عن العيش في أوهام التعددية والتنوع والحكم التشاركي.
وفعلوا ذلك حتى لا تأتي اللحظة التي يتخلى فيها عنهم ويزيحهم من طريق طموحه غير المحدود، خاصة أنه تنكر فعليًا لمن استخدمهم في السابق من رفقائهم الجهاديين في عمليات استشهادية واعدًا إياهم أن دماءهم لن تذهب سُدى وستكون ثمنًا لتطبيق الشريعة.
وإذا كان الشرع ينحّي جانبًا الحكم بالشريعة الذي تعهد به مرارًا مستخدمًا مصطلحات الديمقراطية والتمثيل الشعبي واحترام الأقليات ودولة القانون، وسامحًا باختلاط الجنسين ومتساهلًا مع نشاط الحانات وبيع الكحول، فلا ضامن لعدم تخلّيه عن معتنقي هذه المناهج وتقييد حركتهم ليأمن جانبهم.
فوراء أحداث الساحل السوري الدموية عبر تضخيم أو افتعال مظهر مسلح علوي، سلسلة من الأفعال والمواقف والتصريحات التي بدرت عن أحمد الشرع، واعتبرها الجهاديون خيانة لهم وسيرًا في طريق نهايته، إن لم تكن إزاحتهم من المشهد ستكون تقليص نفوذهم ومكتسباتهم.
◙ الجهاديون عمدوا لقطع الطريق أمام الرئيس السوري الجديد بإجباره على العودة إلى وجه أبي محمد الجولاني الذي تحدث مرارا عن إقامة دولة الإسلام
ولم يستبعد الكثير من الجهاديين داخل سوريا وخارجها أن يكون أحمد الشرع علمانيًا ارتدى ثياب الإسلاميين وتمظهر بمظاهرهم لاتخاذهم رافعة توصله للسلطة، بعدما حل وحدة الأخلاق القائمة على الشريعة وسمح بالاحتجاجات ضده وتراجع عن غالبية ما يعتبره الإسلاميون ثوابت في تجربة حكمهم.
وبنى منظرو الجهادية السلفية حكمهم التحريضي الأخير بحق أحمد الشرع والذي أسهم في اشتعال الأوضاع في الساحل ضد العلويين، على أنه صاحب تاريخ طويل بالسلوك المخادع ، بدءًا من قرار قطع العلاقات مع تنظيم القاعدة وصولًا إلى التعاون الأمني مع نظام حكم يتهمونه بالكفر وهو نظام الحكم التركي، وملاحقة الموالين للقاعدة.
ويعتبر منظرو السلفية الجهادية وقادة القاعدة تحولات أحمد الشرع خيانة كاملة للمبادئ الإسلامية التي كان يدافع عنها سابقًا والمتعلقة بالوفاء للحكم بالشريعة، علاوة على خياناته للتنظيمات التي انتمى إليها، فقد أشاد بتنظيم القاعدة الذي كانت مجموعته جزءًا منه في السابق، مؤكدًا مرارًا أن أعلى أهدافه هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
ويقف أحمد الشرع الآن بين فكي كماشة؛ من جهة لا يستطيع إرضاء رفقائه داخل تياره بالذهاب إلى التمسك بما يعدونه ثوابت غير قابلة للتفريط فيها وإلى الوفاء بتعهداته السابقة التي جعلتهم ينضوون داخل جماعته أو يتحالفون معها، في مقابل عدم استطاعته إرضاء الولايات المتحدة والغرب لنيل الاعتراف بحكمه، وهذا ثمنه التعهد بالحكم الديمقراطي والتركيز على التسامح وحقوق الأقليات وبناء حكومة شاملة.
وقبل أحداث الساحل السوري الدموية ضد العلويين كان هناك في المشهد طرفان رئيسيان هما الولايات المتحدة وأحمد الشرع وفي الخلفية نموذج مصغر للحكم يتطلع إلى تقليد تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا مع تحييد مقصود للجهاديين المتشددين، فهم وإن ظهرت لحاهم غابت أدبياتهم.
وبعد الأحداث قفز الجهاديون إلى صدارة المشهد وباتوا طرفًا رئيسًا؛ حيث أجبروا الشرع على أن يظهر وجه الخليفة (أبومحمد الجولاني) الذي يركز على تطبيق الشريعة ويضعها في الأولوية، ليضمنوا مكانهم واستمراريتهم بجواره باعتبارهم أهل الحل والعقد وأهل المشورة، بمعزل عن أوهام التعددية والحكم التشاركي مع الأقليات.