أبعد من داعش

السبت 2014/09/13

العصَبيةُ تَسْتفزُّ العصبيّات، والعُنصريّةُ تسْتثيرُ العُنصريّات، فيَلجأ دُعاتُها إلى كلّ المبررِات والأسانيدِ، من التّاريخِ القريبِ والبَعيد، وممّا هو خارجَ التاريخ، لِتَدْعيمِ حُجَجِهم الأشد تصلّبا والأبعد تطرفاً. وتتالى المُزايَدات ضِمْنَ الطّرفِ الواحدِ الذي يَنقسِمُ على نفسِه تبعاً لِتلك المُزايَدات في التشدّدِ والتطرّفِ في الرأيِ وفي المُمارسات.

وحين تقفُ وراءَ ذلك، قوىً توظّفُ هذه الكوارثَ في إنتاجِ وإعادةِ إنتاجِ التّخلفِ مِن أجلِ إنتاجِ وإعادةِ إنتاجِ نظامِ سَيْطرتِها، قوىً تستحوِذُ على وسائلِ الضخِّ التّحريضيّ وعلى القوّةِ المادّيةِ التي تُعزّزُ قابليةَ الاقناعِ لدى جمهورٍ عريضٍ تعرّضَ لمُختلفِ أشكال الاستبدادِ والقمع والكبْتِ والتّهميش، تتفاقمُ المشكلةُ لِتَأخذَ طابعَ الانقسامِ الأهليّ الحاد الذي يؤسِسُ للاحترابِ، ولِتفاقمِ هذا الاحتراب ما يفسِحُ المَجالِ لإعادة إنتاجِ المزيدِ مِنَ التّخلّفِ والمزيدِ منْ هيمنةِ القوى التي يتطلّبُ نظامُ سيطرتِها إعادة إنتاج وترسيخ.

لكنّ الجماهيرَ العريضةَ المُهمّشة، وعلى المستوى القاعدي، وبمختلفِ تنوعاتِها وانتماءاتهما، بِما في ذلك الدّينيّةُ والمذهبيّة والإثنية والعشائرية، والتي لا تطلُب في الأساس، سوى الأمن والأمان والعيش الهادئ وقليلا من حرية القول والعمل، والتي اعْتادتْ على التنوّع في مناطقَ تُعدّ تاريخيا حاضنةً لهذا التنوّع، والذي محَضها الكثيرَ من غنى تاريخي وحضاري وإنساني، لم تعتدْ أنْ تُشكلَ، رغمَ كلّ المحاولات التي بدأت منذ مطلع عصورِ الاستعمار، بُؤراً للاقتتال الأهلي إلا حينما كان هذا الاقتتال مدفوعاً بقوى خارجية، ويخدمُ أجندات قوى محليّةٍ مُرتبطةٍ بها سياسياً واقتصاديا وأيديولوجيا، في الهيمنةِ وفي اقتسامِ الحُصصِ الناشئة عن استغلال النفوذ والانتفاع من السيطرة على مفاصل الحُكم. وهكذا كان كلّ انقسامٍ أهليٍّ لا يصبُّ إلا في مَصلحة فسادِ السلطة، وإعادة إنتاج وتعميق هذا الفساد.

ومنذ التحوّلِ على مستوى الطبقات المسيطرة مطلعَ التسعينات، أطلقت قواها السلطوية كل طاقاتِها في استغلال السّلطة بالطرق المافيوية البَحْتة التي أمْلَتْ تخلّيَ الدولة عن كلّ دَوْر “رعائي” سَواءٌ في المجالات الاجتماعية أو على مستوى الاقتصاد، فسيطرَ الاقتصادُ الريعيّ ودُمِّر القطاعُ العام وحوصِرتْ أشكالُ الاقتصادِ المُنتج والمُشغّل من زراعة وصناعة وحتى سياحةٍ، مما دفع غالبيةَ الأيدي العاملة فيها إلى البطالة أو الهجرة أو التهميش، التهميش الذي استغل أبعدَ حدودِ الاستغلال في ابْتزاز الشّباب المقبلِ على سوق العمل، في مستقبلِهم، ليتمّ تشغيلُ القليلِ منهم في أجهزة القمع، الرّسميةِ منها والخصوصية. وليتمَّ تطويعُهم في ميليشاتٍ أو أشباهِ ميليشيات مُؤدلجة مخصّصة للتحريض والصراع الأهليّ طائفياً أو مذهبياً أو إثنياً أو عشائريا.

وفي ظل هذا الواقع المُغلق والذي يُعيدُ إنتاجَ نفسِه كدائرةٍ عصيّةٍ على الكَسْرِ، تخدمُ استمرارَ سيطرةِ الائتلافات المافيوية المحلية، وبالأخصِّ، سيطرةَ مراكزِ الهيمنة التي تُدير اللعبةَ عن بُعد، فتقوم الزعامات الطائفية والمذهبية والعشائرية كقياداتٍ سياسيةٍ غيرَ قابلةٍ للعزْل، تحكم ضمنَ ائتلافاتٍ سياسية متنافسةٍ على المغانمِ مُتآلفةٍ في السلطة، يَحكمُ فيها الآباءُ ويورثون الزعامةَ للأبناء، بحيثُ يُعتبر كلُّ خارج على الزعيمِ خائناً للملّة وللدين، يفقد اعتبارَه داخلَ البيئة التي وُلد فيها ولا يلقى احتضاناً من لَدُنِ البيئاتِ الأُخرى. فتنشأ جماعاتٌ من المَنفيين اعْتباراً، يُشكلون حسبِ اعتبارِهم لأنفسهم، نُخَباً، لكنّها تبقى مقطوعةَ الصِّلاتِ بالواقع، تُعاني العُزلةَ وتناضلُ لِتَجدَ لنفسها موقعاً على ضِفافِ النظام الذي تَجْهرُ بإدانتِه دائماً وتَلهجُ بضرورة تغييره من جهة، وتتَّهمُ الجماهيرَ المنقسمةَ تحت وطأتِه بالجهل وبالتخلف وبالخنوع من جهة ثانية.

وكلما ابتعدت النّخب عن القواعد الشعبية ازدادتْ حاجتُها إلى التعلّق بأطراف القوى المهيمنةِ، فيتحولُ خطابها إلى مواعظ تَطرح الإصلاح الذي تراه ضرورياً.

وهكذا يبقى القاعُ الاجتماعيّ المُنسحِقُ تحتَ وطأةِ اقتصادٍ مافيويّ ناهبٍ ومدمّرٍ مُستباحاً من قِبل قوى السلطة ومن أدواتِها الإعلامية، ومتروكاً لمزيدٍ من التهميشِ ولمزيدٍ من الجهلِ وتزييفِ الوعيّ والتخلف.

هنا يصبح تزييفُ الوعي ضروريا لتزييف التمثيل السياسي لدى القوى الطبقية المسيطرة. بحيثُ يصبح قاعدةً لشرْعنةِ تزييفِ التمثيلِ السّياسي من خلال قوانينَ انتخابيةٍ يَعرف، ويَجهَرُ الجميعُ بأنّها فاسدةٌ أساساً ومضموناً ونتائجَ. لكنّ مزيداً من تزييفِ الوعيِ والحقنِ الدعائيّ يصبح كافياً لتؤدي الطبقةُ المسيطرةُ بأطرافِها كافّةً دورَ القواعدِ الشعبيةِ في إعادة إنتاج السلطةِ حتى دون العودةِ إلى تلك القواعدِ التي تُسمّى باللهجة “الديمقراطية”: الهيئات الناخبة! فتُمدّدُ لمندوبيها ممثليتهم في البرلمان بكل أريحيةٍ ودونَ أي تردّد، “حرصاً على السّلم الأهلي” كما يحصل في لبنان.

لكنّ هذا قد لا يشكلُ قاعدةً تنطبق على جميعِ بلدانِنا، ولا في جميع الأوقات وتحت ظروف متباينة. فتهميشُ مناطقَ بأسرِها أو انتماءٍ مذهبيٍّ بعينِه يدفعُ “القياداتِ” التي تعتبرُ نفسَها راعيةً لهذه المناطقِ أو لذلك الانتماءِ إلى توسّلِ الطرقِ لإعادةِ إنتاجِ السّلطة بشّكل يُعيدُ إليها حصّتَها فيها.

وحين تنطلق “الثورة” من فوق يكون مآلها زعزعةً للنظام دونَ إسقاطه، بل إعادة للتوازن السلطوي بما يتوافقُ والوقائعِ المستجدّة. وخصوصاً حينَ تجدُ هذه القيادات رعاةً خارجيين يدعمونها لأجنداتٍ يرسمونها، أو تستجدي القوى الأكثرَ تطرفاً لنُصرَتِها في وجهِ القوى المهيمنةِ التي عمِلتْ على تهميشِها كقوى سلطويّة، كما يحدث في العراق.


كاتب لبناني

9