الكاتبة العمانية ليلى البلوشي تضيء القصص بكائنات الهامش

تظهر هواجس الكتابة والتعبير والأدب على خيال القاص/القاصة عندما يشرع في خط الأحداث بمختلف تقنياته ومسالك خياله، إذ نراه ينتقل من حلم كتابي إلى آخر، فتصير كل قصة مشروع حلم كتابي أو لعبة في عالم الفن والأدب. حينها يلملم القاص شتات الحكايات، ويهندس أدوار كائناته السردية، وينسج حبكته السردية.
الجمعة 2016/11/25
الكائنات السردية تصنع الإثارة (لوحة فنية لماري كريستين ثيرسولين)

تحاول الكاتبة العُمانية ليلى البلوشي في مجموعتها القصصية “كائناتي السردية” ضخّ حياة في كائنات الظلّ التي تصفها بكائناتها السردية، وهي بمعنى ما كائنات سردية تستقي ديمومتها من هامشيتها وإقصائها، وكأنّها تتوق من خلال استنطاقها وبث روح جديدة فيها إلى مواكبة الزمن، أو لتكتسي معاصرة وتبدأ مرحلة تالية من الحياة.

أنسنة الموجودات

تركز صاحبة “صمت كالعبث” على أنسنة الموجودات في مجموعتها، الصادرة عن دار نينوى، دمشق (2016)، وتكون وفيّة لتوصيفها بالكائنات السرديّة، وهي تمنحها امتياز التعبير عن خلجات نفسها المتخيّلة، في قصّتها “مخطوطة” مثلا يسرد كتاب تاريخي رحلته من يد مدون إلى أخرى، ورحلة إنقاذه على يد أحدهم، ومن ثمّ وصوله إلى مكتبة معتمة بائسة، ثم قراره المهمَل بالانتقام لكينونته المهمشة وحضوره الذي كان ذات يوم أثيرا وساحرا، وانقلابه على واقعه باختيار الانتحار حرقا، بحثا عن كينونة أخرى وصيغة أخرى للحياة.

وفي قصتها “العباءة” تمنح البلوشي امتياز التعبير عن المكنونات والإفصاح عن الدواخل للعباءة، تنقلها من حالة الشيء إلى حالة شخص عاقل يمتلك زمام أمره، ويثور على الظلم الذي لحق به، وتنتقل العباءة من مَقودة إلى متحكمة في مصيرها وقرارها، تقرر خوض تجربة مختلفة، تنتقم أيضا من أجل الإهمال الذي يغرقها، وتعزم على تخطيط مسار مختلف لنفسها، فتختار نهاية مأساويّة تودي بها وبقريناتها المغرورات، وتكون كالكتاب، متماهية مع فراشة الشعراء في الاقتراب من النار واختيار التوحّد معها.

أمّا في قصتها “يد” تكون القاصة في مواجهة الفقد، في اختبار الكمال والنقصان، يد الكاتب اليمنى المبتورة والمفقودة تكون شاهدة على تعاسته بغيابها عنه، هي التي كان يعتمد عليها في طقوسه وكتاباته، يشعر بالغربة بعيدا عنها، يشعر بالخواء، يظل مسكونا بوساوس الفقد والضياع، يفقد حماسته للكتابة التي يعتبرها حياته، وكأن شغورا محل تلك اليد أفسح المجال أمام الظنون البائسة كي تستحوذ عليه، وحين يسعى إلى ملء ذاك الفراغ يقع في مستنقع تبدد الشخصية وتفتت الأحلام بين اليد الجديدة المُلصقة بكيانه، والغريبة عنه، وتلك التي تركت فراغا روحيا لديه لا يمكن ملؤه بأيّ كائن آخر.

عنف اللغة في "كائناتي السردية" يكون أحيانا صدى لعنف الواقع، وأحيانا أخرى شرارة لتأويل الحكايات وأصواتها

تستعيد الساردة في قصتها “فتاة اسمها راوية” حكايتها من الطفولة إلى الزواج، ولكن مع إشارة في الخاتمة إلى التحول المفصلي الذي يكمل لعبتها، فتكون راوية معايشة وغارقة في واقع فتيات ينتظرن البلوغ، تتملكهن مخاوف الحيض، ولكن راوية المسكونة كغيرها بتلك المخاوف تترقب دون نتيجة، ويكون الكشف الطبّيّ عليها طوق نجاة لها، وتتحوّل إلى راوٍ ينقل إشارة على الاقتران بعروس.

الكينونة الأنثوية

يكون تحوّل الكائن السرديّ منعطفا في اللغة والفعل والقول معا، فراوية تتحوّل إلى مذكر يحكي النهاية، برغم أن الفصول والأحداث كانت بلغة المؤنث، تتخلى الشخصية عن كينونتها الأنثوية، لكنها تحتفظ بموهبتها السردية، وتبقى وفيّة للغة القاصة وبحثها عن الإدهاش في اختيار المصير غير المتوقع، والخاتمة التي لا تخلو من صدمة، وربما في جانب آخر تحمل بشرى بصيغة مضمرة، وخصوصا إلى الأهل الذين قد يتوجه التغيير لصالح تفكيرهم التقليدي.

في قصتها “هل قابلتم فكرة السيد رضوان؟” تقص صاحبة “رسائل حبّ مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن” حكاية فكرة تستبد بصاحبها، حكاية رجل تقوده فكرته إلى الهلاك في نظر من حوله، وتقوده إلى البحث عن كينونته المفقودة أو المستلبة بالنسبة إليه، يجدّ في البحث عن أرض تستقبل فكرته، وعن تجسيد أو تظهير لتصوّره، وحين تضيق به بلاده يأخذ باقتراح التوجه إلى اليابان، وإمكانية تعبيره عن فكرته وعثوره عليها هناك، لكنّ صدمته تكمن في فشل مسعاه، وبقائه متشردا متنقلا من بلد إلى آخر بحثا عن موطن لفكرته الهاربة من التجسّد والظهور.

محاولة ضخّ حياة في كائنات الظلّ

وفي قصتيها المعنونتين بـ”ليلة اثنين وستين” ومرقمتين بواحد واثنين، تحضر دعوة حكائية إلى التمرد على الرتابة اليوميّة والخروج من قوقعة الروتين المُكتئبة، ويكون بطل القصة السيد يوسف في مرآة ذاته يوم ذكرى ميلاده الثانية والستين، يقرّر كسر الرتابة التي تقيّده وتغرقه، ويختار نهاية مفجعة، ولا يكترث بما قد يشاع عنه، فيكسب تغييبه الواقعيّ حضورا متجدّدا باختياره تلك النهاية، ويعود إلى الحياة عبر الحكايات التي تساق حوله، ومن خلال القصص والمحاكمات التي تجري لاحقا للقاصّة المفترضة التي قادته إلى ذاك المصير المفجع.

تشرك البلوشي قارئها في أجواء قصصها وأحداثها، من ذلك قصتها “يوم في الحياة”، بالإضافة إلى المحاكمة القصصية المفترضة في قصتها الأخيرة “غيمة مثقوبة”، تنسج خيوط الحبكة واللعبة، وتقلب دور القاصّ ليكون سائلا قارئه، وباحثا عن تجسيد لخياله المفترض، فتحرّض لديه ملكة السؤال عمّا يمكن أن يكون، وتحفّزه على تقديم إجابته عن سيناريو الحكاية والحياة.

تنسج الكاتبة حبكة بين عدد من القصص في قصّتها المعنونة بـ”غيمة مثقوبة”، وتنوّه بضرورة العودة إلى ثلاث قصص لفهم حيثيات ما تسميه بالمحاكمة، وهي محاكمة كافكاوية، يتداخل فيها الأدب بالوهم وبالحياة، تجد القاصة نفسها شخصية قصصية،؛ كائنا سرديا متهما بتوريط أبطاله ودفعهم إلى الهلاك، قد تمّ إفشاء أسراره على ألسنة أبطاله ورواته، وعليه إثبات براءته ممّا يشاع عنه، أو يساق ضدّه.

تستعيد مؤلّفة “قلبها التاسع” في المحاكمة المتخيلة صورا من البؤس الذي يعمي بعض المحيطين بالقاصة، وهم يستجوبونها عن تجريبها لمسارات مبتكرة في سردها وتجديدها في عوالم قصصها، وأسباب تحولها من نمط إلى آخر، أو دخولها معترك التجريب بعد مجموعة وصفت بالشاعرية، وكيف أنها تمرّدت على قيود التنميط والتقييد وبحثت عن صوت مختلف وسط ضجيج أصوات متصادية يتمّ النفخ فيها بطريقة دعائية.

تقترب البلوشي في عملها من فضاءات المتواليات القصصيّة، بحيث أن دائرة القصّ لا تنتهي بنهاية هذه القصة أو تلك، بل تعيد نسجها والبحث عن تطورات كائناتها وشخصياتها، بالتوازي مع تأثيرها عليها كقاصة متورطة بلعبة القصّ نفسها، وباحثة عن سبيل لتحفيز الخيال وابتداع ظلال للأصوات المهمشة المقموعة، ويكون عنف اللغة أحيانا صدى لعنف الواقع، وأحيانا أخرى شرارة لتأويل الحكايات وأصواتها، والحكي وأساليبه.

14