ثورة العمال البيض في بريطانيا وأميركا: العالم يعود إلى عصر الانغلاق

التوجه الذي يقول بأن الأميركيين البيض أرفع قدرا إلى حد ما من الأجناس والأعراق الأخرى على وشك أن يصبح مؤسسيا في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، حيث نجحت الأغلبية الصامتة في قلب الموازين، في اللحظات الأخيرة، وأوصلت دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، مثلما أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد أن ضاقت الطبقة العمالية أساسا، من جراء تأثيرات التجارة الحرة والحدود المفتوحة.
الخميس 2016/11/24
ظاهرة مقلقة

“ثورة صامتة” هو التعبير الذي استخدمته رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، لوصف قيام أغلبية البريطانيين بالتصويت لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي تم يوم 23 يونيو من العام الحالي، والذي كان أشبه بزلزال سياسي في بريطانيا والاتحاد الأوروبي لا تزال توابعه تتلاحق ولا تزال المشكلات التي نجمت عنه، مثل طبيعة علاقة بريطانيا المنتظرة بالسوق الأوروبية الموحدة، بلا حلول واضحة حتى الآن.

وما إن مضت شهور قليلة حتى شهد العالم زلزالا سياسيا آخر أشد أثرا وأوسع مجالا، بحكم الوزن الهائل للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وهو فوز دونالد ترامب بمقعد الرئاسة في الانتخابات التي تمت يوم 9 نوفمبر.

وهو الفوز الذي جاء مخالفا لاستطلاعات الرأي، ولما قاله الكثير من المحللين الذين ازدحمت بهم شاشات التلفزيون في مختلف بقاع الأرض.

ولعل أبرز تعبير عن التشابه بين الحدثين هو إسراع نايجل فاراج، زعيم حزب “استقلال المملكة المتحدة” وأحد أبرز دعاة انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، إلى زيارة نيويورك للقاء ترامب وتهنئته على فوزه بالانتخابات، ليكون بذلك أول سياسي بريطاني يلتقي بترامب بعد انتخابه، متقدما في ذلك على المسؤولين البريطانيين الذين يشغلون مقاعد رسمية في حكومة تريزا ماي، وبدا اللقاء بين الرجلين، ترامب وفاراج، سعيدا ومريحا ومبهجا لكل منهما.

ولا يقتصر التشابه بين الحدثين على أن كلا منهما فاجأ الكثيرين، وخالف توجهات الكثير من المنتمين إلى النخب السياسية والإعلامية في البلدين؛ فبالإضافة إلى كل ما سبق، هناك مجموعة متشابهة من الناخبين صوتت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولصالح فوز ترامب بالرئاسة، وهي أغلبية الطبقة العاملة البيضاء في كل من بريطانيا والولايات المتحدة.

في بريطانيا صوت أغلب الناخبين الإنكليز في المناطق الريفية خارج لندن للخروج من الاتحاد الأوروبي، وكان هذا هو اختيار أغلبية الناخبين البيض الأكبر سنا والأقل تعليما، فيما كان الشباب الأفضل تعليما، والأكثر قدرة على الحصول على فرص عمل في مؤسسات دولية أو أوروبية، مثل تلك التي تتواجد في لندن، الأكثر ميلا إلى بقاء بلادهم في الاتحاد الأوروبي.

وفي الولايات المتحدة حصل ترامب على تأييد واسع من أبناء الطبقة العاملة البيضاء، التي لم يحصل من ينتمون إليها على درجات جامعية، إذ وصلت نسبة تأييد ترامب بين أفراد هذه الطبقة إلى 67 بالمئة، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 20 بالمئة فقط بين الطبقة العاملة من غير البيض، مثل الأميركيين من أصل أفريقي أو من أصول لاتينية.

وعلى العكس كان الانقسام واضحا بين الناخبين البيض الحاصلين على درجات جامعية، إذ لم يحصل ترامب إلا على تأييد نسبة 49 بالمئة منهم، فيما أيدت نسبة 45 بالمئة منافسته هيلاري كلينتون. وهذا يعني ببساطة أن الطبقة العاملة البيضاء هي التي حملت على أكتافها ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة.

أسباب الثورة الصامتة

يبدو واضحا أن الطبقات العاملة في بريطانيا والولايات المتحدة تعيش حالة من الغضب والضيق والإحباط، ولا تجد من السياسيين في الأحزاب الرئيسية من يعبر عن توجهاتها بشكل كاف، أو يقوم بما يكفي من مجهود، من وجهة نظرها، للتصدي لهذه المشكلات. وترامب نفسه قال في مقابلة مع مجلة الايكونوميست البريطانية قبل الانتخابات إنه يستهدف ما وصفه بـ”الأغلبية الصامتة” من الطبقات العاملة التي تشعر بالتهميش.

فما هي أسباب كل هذا الغضب؟ ما الذي أشعل ما يمكن اعتباره ثورة صامتة على النخب الحاكمة في البلدين؟

لعل حرية التجارة، وما أسفرت عنه من عجز المنتجات الأميركية عن منافسة المنتجات الصينية في الكثير من القطاعات، وبالتالي تدفق السلع الصينية على الأسواق الأميركية، من أبرز أسباب حالة السخط المنتشرة بين أفراد الطبقة العاملة في الولايات المتحدة؛ إذ أن نتيجة انتشار السلع المستوردة منخفضة السعر، التي تأتي أيضا من دول آسيوية أخرى، بخلاف الصين، علاوة على دول أميركا الجنوبية، هي عجز المصانع الأميركية في قطاعات كثيرة عن منافستها، مثل مصانع الملابس والأحذية ولعب الأطفال وغيرها.

الكثير من الفقراء البيض يشعرون بأنهم أكبر خاسر من جراء حرية التجارة والهجرة ويجدون العالم يتغير من حولهم

وبالتالي، توقفت مصانع كثيرة عن العمل، وتحول العاملون بها إلى فقراء وعاطلين. صحيح أن توفر السلع المستوردة بسعر منخفض يحقق مصلحة المستهلكين، لكن بالنسبة للطبقات العاملة فإن الضرر الذي وقع على أبنائها بسبب الاستيراد يفوق كثيرا ما جنوه من منافع. بعبارة أخرى، دفع العمال الأميركيون ثمن حرية التجارة، فيما استفاد غيرهم منها.

ومن هنا، كانت تعهدات ترامب لناخبيه بالتخلي عن أي اتفاقيات تجارية تلحق الضرر بالمصانع الأميركية، بما في ذلك إمكانية التخلي عن اتفاق التجارة الحرة مع أميركا الشمالية، أو الخروج تماما من منظمة التجارة العالمية.

ولا تختلف الصورة كثيرا في العديد من المناطق الصناعية في بريطانيا، إذ عجزت المصانع البريطانية عن المنافسة في قطاعات صناعية هامة، مثل صناعة النسيج والملابس، وتحول اقتصاد بريطانيا منذ عهد مارغريت ثاتشر تدريجيا ليصبح أشد اعتمادا على قطاع الخدمات المالية التي تتركز أساسا في المدن الكبيرة، مثل لندن، وأصبحت الكثير من العائلات في المناطق الصناعية تعيش على المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، وترى بدورها أنها لم تجن من حرية التجارة إلا الأشواك.

المشكلة الثانية الكبيرة التي تزعج العمال البيض في الولايات المتحدة وبريطانيا هي تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين إلى بلادهم. في الولايات المتحدة هناك أكثر من 10 ملايين مهاجر مكسيكي يعيشون ويعملون بدون أوراق رسمية، ومع ذلك تغمض السلطات أعينها عنهم لأن المصانع الأميركية في حاجة إلى أيد عاملة رخيصة تقبل العمل في ظروف غير صحية لن يقبلها العامل الأميركي الذي يعمل بشكل شرعي.

الهجرة تعقد الأزمة

يرى هذا العامل أيضا أن المهاجرين يأخذون فرص العمل التي قد تكون متاحة له، أو أنه قد يجبر على العمل بأجر منخفض لأن هناك بديلا أرخص منه. أما في بريطانيا، فقد كانت نقمة العمال على الاتحاد الأوروبي ترجع أساسا لمبدأ حرية العمل والانتقال بحيث أصبح من حق العمال الوافدين من شرق أوروبا العمل بالحقوق ذاتها في السوق البريطانية.

وهنا، تتكرر الأزمة نفسها: يرى الكثير من العمال البريطانيين أنهم يخسرون فرص العمل أو يجبرون على قبول أجور منخفضة بسبب وجود عمال من أوروبا الشرقية. ومرة أخرى، يرون أنهم تضرروا من حرية العمل والتنقل التي يضمنها الاتحاد الأوروبي، فيما يجني غيرهم الثمار.

علاوة على كل هذا، فإن حركة الهجرة واللجوء أدت إلى تدفق أعداد كبيرة من المسلمين على بريطانيا والولايات المتحدة في الوقت الذي تقدم فيه أغلب وسائل الإعلام صورة سلبية عن الإسلام والمسلمين، وتربط وجود المسلمين في المجتمعات الغربية بانتشار الإرهاب، ومن ثم كانت هذه المخاوف من الإسلام والمسلمين التي يستغلها أنصار اليمين المتطرف في بريطانيا وأميركا.

باختصار يشعر الكثير من الفقراء البيض بأنهم أكبر خاسر من جراء حرية التجارة والهجرة. يجدون العالم يتغير من حولهم، لكنهم عاجزون عن مجاراة هذا التغير. يجدون أبناء ثقافات أخرى يتوافدون عليهم، ولكنهم لا يعرفون عنها إلا كل ما هو سلبي ومنفر. هم يواجهون صعابا وأزمات بلا شك، ولم يرتفع دخل أغلبهم خلال السنوات العشر الأخيرة. لكن الأسوأ من هذا أنهم يواجهون سياسيين يتلاعبون بعواطفهم، ويقدمون لهم حلولا لا علاقة لها بالواقع.

عندما يقول ترامب مثلا لأتباعه “سنبني هذا السور”، في إشارة إلى السور الذي يريد بناءه بين الولايات المتحدة والمكسيك، يبدو الأمر وكأن كل مشكلات الهجرة ستختفي بمجرد بناء سور! أو عندما يتحدث عن فرض حظر على دخول المسلمين للولايات المتحدة، تبدو الصورة لأتباعه وكأن هذا الأجراء هو الذي سينهي كل مشكلات أميركا مع الجماعات المتطرفة! وفي الواقع أن محور ما يقوم به ترامب أو فاراج أو غيرهما هو حشد قطاع من المواطنين ضد قطاع آخر بحيث يصبح الصراع بين “جماعتنا” و”جماعتهم”، أو بين قيمنا وقيمهم. وينتهي الأمر بالمجتمع إلى انقسام عميق، وبقطاع واسع من العمال البيض إلى الاعتقاد بأن حل كل أزماتهم يكمن في الانعزال والانغلاق، ورفض الثقافات الأخرى.

ولعل أكثر ما يثير العجب في كل هذا هو صعوبة تنفيذ هذه الوعود بالانعزال، والانسحاب من اتفاقيات التجارة الحرة، وطرد المهاجرين. تخيل مثلا لو اتخذ ترامب إجراءات عقابية ضد الصين، وردت الصين بالمثل، فهل ستستفيد الولايات المتحدة أم ستخسر؟ وإذا أراد ترامب طرد الملايين من العمال المكسيكيين فهل سيوافقه رجال الأعمال؟ ومن الذي يمكن أن يقوم بأعمال شاقة يقوم بها المكسيكيون، وبأجور زهيدة؟ وإذا خرجت بريطانيا من السوق الأوروبية الموحدة، فهل سيقبل المستثمرون على الاستثمار بها؟ أليس من المنطقي أن تتراجع فرص العمل؟

في الواقع، المطلوب هو سياسات اجتماعية واقتصادية تراعي احتياجات الطبقات العاملة في البلدين، وتقدم لها فرص العمل والتدريب التي تمكنها من التوافق مع تغيرات سوق العمل. هناك مشكلات حقيقية بلا شك عند هذه الطبقات، وهناك شعور حقيقي بالتهميش والتجاهل لدى الكثير من المنتمين إلى هذه الطبقات. هناك ثورة صامتة في صفوف الطبقات العاملة البيضاء، لكن المشكلة أن هناك دائما من السياسيين من ينجحون في ركوب الثورات، دون أن يقدموا شيئا لمن قاموا بها.

كاتب مصري مقيم في لندن

6