الحركات الدينية ونصب الفخ النظري الكبير

تضليل فكري خطير تقدم عليه الحركات الدينية، يقوم على ترويج فكرة مفادها المقابلة بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الغربية، وأن التخلي عن مفاهيم البيعة والخلافة والانتصار للديمقراطية والتعددية ينمان عن تخل عن الإسلام.
الاثنين 2016/11/07
تسويق للتعارض بين المفاهيم الدينية والمفاهيم الحداثية

إنه خطأ معرفي بمعنى معيّن، بل خطيئة سياسية بكل المعاني، بل فساد في الاعتقاد بلغة القدماء، وقد لا يخلو الأمر من تضليل مقصود لغاية الدعاية والتهييج، وهو دأب الكثيرين في ما يبدو، لكن ما المشكلة؟ تكمن المشكلة في الاعتقاد بأنّ التقابل بين المفاهيم السياسية للعالم القديم، من قبيل الخلافة والبيعة والشورى والطاعة من جهة، والمفاهيم السياسية للعالم الجديد من قبيل الديمقراطية والانتخابات والتعددية والتداول على السلطة من جهة ثانية، هو تقابل بين جهاز مفاهيمي ديني وإسلامي بحكم الجوهر والحضارة، وجهاز مفاهيمي غربي وعلماني بحكم الجوهر والحضارة.

سوف لن يكون هذا التصور أكثر من فخ نظري حبكته الحركات الدينية جميعها، ونجحت فيه إلى أبعد الحدود. صحيح أن الفقه الإسلامي استعمل تلك المفاهيم، بل صحيح أيضا أن الخطاب القرآني نفسه قد استعملها بالتمام ودون تحفظ، ناهيك عن الخطاب السني، والصحابي، والتابعي، إلخ. غير أن الاستعمال ليس دليلا على الملكية أو التملك. ويصدق هذا القول على الأشياء كما يصدق على الكلمات أيضا.

استعمال الأشياء لا يدل على أصلها وهويتها، استعمال الكلمات لا يدل على منشئها وانتمائها، وعموما لا يكفي أن يكون الإسلام قد استعمل مفهوما من المفاهيم حتى يصير ذلك المفهوم مفهوما دينيا أو إسلاميا، أو تصير لنا هوية حضارية ثابتة وراسخة. والحال أن إبداع أو إنتاج المفاهيم ليس وظيفة الأديان، بل وظيفة حقل معرفي آخر، هو الفلسفة تحديدا كما يرى الثنائي فليكس غاتاري وجيل دولوز.

حين نقرر التخلي عن مفاهيم الخلافة والشورى، فإننا لم نتخل عن مفاهيم إسلامية، بل قررنا التخلي عن مفاهيم من العالم القديم

ليس الإسلام فلسفة، بل عقيدة دينية غايتها القصوى إصلاح التوحيد وإعادته إلى جوهره الرباني الخالص، بمعزل عن شبهات التشبيه والتجسيم، وحيث يتحقّق التنزيه المطلق للذات الإلهية (ليس كمثله شيء). عدا ذلك، تظل اللغة والمصطلحات والمفاهيم المستعملة في الخطاب الديني أدوات تعبيرية تندرج ضمن السياق التداولي الذي يتناسب مع مستوى النضج العقلي والوجداني لإنسان العالم القديم. وفي كل الأحوال، لم يكن العالم القديم عالما أبديا، ولم يكن مقررا له أن يكون كذلك، طالما “لكل شيء إذا ما تمّ نقصان” كما قال أحد الشعراء، وإنما العالم القديم مجرد عالم عرضي ونسبي وزائل، شأنه في ذلك شأن سائر العوالم الدنيوية الأخرى، ذلك أن “كل من عليها فان”.

حين يختفي الوعي بالعرضية والنسبية والفناء، ويتمّ تجاهل الصيرورة التي هي قدر الوجود، يصبح الحنين إلى العالم القديم أبعد ما يكون عن الوفاء للدين والمُثُل الدينية كما يتوهم البعض، وإنما مجرد نكوص بالمعنى المرضي للكلمة. لا يكمن الفرق بين مفاهيم الخلافة والبيعة والطاعة والشورى والإمامة والجماعة من جهة، ومفاهيم الديمقراطية والتعددية والانتخابات والتصويت والتداول على السلطة من جهة ثانية، في أن هناك مفاهيم دينية أو إلهية أو سماوية أو أنها تنتمي إلى الإسلام حصرا أو يمكن وصفها بالإسلامية، مقابل مفاهيم مدنية أو وضعية أو بشرية أو أنها تنتمي إلى الغرب حصرا أو يمكن وصفها بأنها غربية، بل يكمن الفرق بكل بساطة ووضوح في أن هناك جهازا مفاهيميا ينتمي إلى العالم القديم بمختلف دياناته وثقافاته ومرجعياته، مقابل جهاز مفاهيمي ينتمي إلى العالم الجديد بمختلف دياناته وثقافاته ومرجعياته.

هذا يعني، بصريح اللفظ ووضوح العبارة، أننا حين نقرر التخلي عن مفاهيم الخلافة والشورى والبيعة والطاعة والرعية والردة والجزية وأهل الذمة، وما إلى ذلك من مفاهيم سياسية تنتمي إلى العالم القديم وتعيق تطور الوعي الحداثي الديمقراطي وقيم المواطنة والسلوك المدني، فإننا لا نكون قد تخلينا عن مفاهيم دينية إسلامية كما يروّج البعض، بل نكون قد قررنا فقط التخلي عن مفاهيم تنتمي إلى العالم القديم. وحين نتبنى مفاهيم المؤسسات والقانون والتّعددية والتداول على السلطة وحقوق الإنسان والمواطنة، فإننا نتبنى مفاهيم تنتمي إلى العالم الجديد؛ عالم اليوم. وهذا عن الخطأ المعرفي، فماذا عن الكلفة السياسية؟

حين نصف المفاهيم السياسية للعالم القديم بأنّها مفاهيم دينية أو إسلامية أو إلهية، ونصف المفاهيم السياسية للعالم الجديد في المقابل بأنها مفاهيم علمانية أو غربية أو بشرية، بمعنى أنها غريبة عن منظومة الإسلام، ولا تعبر عن إرادة الله، فإننا سرعان ما نجعل الجمهور المسلم يعتقد بأن التخلي عن مفاهيم العالم القديم هو من قبيل التخلي عن الإسلام، والتفريط في الدين، والخروج عن الإيمان.

وهذا هو الفخ النظري الكبير الذي تنصبه الحركات الدينية بمختلف مشاربها، فيخلق هذا الفخ لدى الجمهور المسلم نوعا من الإحساس بالغربة والاغتراب ويثير لديه شعورا عميقا بأنه يعيش في منفى روحي وسط عالم يعاصره بالفعل لكنه لا يوافق مفاهيمه ولا يناسب تصوراته ولا يطابق هواه. وبعدها يتوهم الإنسان المسلم بأنّ غربته الروحية هي من غربة الإسلام نفسه، والذي أصبح متروكا ومهجورا. ثم يشعر أخيرا بأن هذا العالم ليس عالمه ولا هو يصلح لكي يقيم فيه بكل سلام وطمأنينة. وفي هذه اللحظة، وفي هذه اللحظة بالذات، يبدأ العدّ العكسي لساعة الانفجار.

كاتب مغربي

13