البريد القديم.. أبعدته التكنولوجيا وحفظته ذاكرة الشعوب

ظهرت وسائل الاتصال الحديثة واعتمد الإنسان على التكنولوجيا لتسهيل تواصله وتحاوره مع غيره في شتى أركان العالم، ولئن قضى على التقنيات القديمة للتواصل ومنها البريد بشتى تنويعاته وتفرعاته، إلا أن ذلك لم يحل دون محافظة البريد القديم "الطوابع والرسائل والوسائل المستخدمة" على أهميته وإن تحول إلى وثائق تاريخية تساعد على فهم المراحل والأحقاب السابقة. حيث أسهم ظهور التكنولوجيا في ركن الرسالة والطابع البريدي وساعي البريد إلى المتاحف، لكنه لم يحذفها من الذاكرة أو من اهتمامات المؤرخين.
الاثنين 2016/10/10
تواري البريد القديم ومشتقاته لم يمنع من تحوله إلى وثائق تاريخية

القاهرة - مع تطور المجتمعات الإنسانية وحاجة الإنسان للتواصل وتقريب المسافات والاطمئنان على الأهل والأصدقاء، ظهر البريد بأشكاله المختلفة، واخترعت وسائل الاتصال المتنوّعة تطبيقا للقول المأثور “الحاجة أم الاختراع”، وتنوعت هذه الوسائل بحسب البيئة التي وجد فيها الإنسان، وقديما استخدم الإنسان مساقط المياه ومجاريها، كما استخدم الحيوانات والطيور وقرع الطبول كوسيلة اتصال فعَّالة.

ويُحكى عن الهنود، أنهم كانوا يرسلون رسائلهم البريدية عن طريق ثمرة جوز الهند، فكانوا يثقبونها ويضعون فيها الرسائل، ثم يغلقونها ويلقون بها في البحر أو النهر، ليحملها الموج إلى الجهة المرسلة إليها، أما أهالي إسبرطة القديمة، فيُقال إنهم كانوا يستخدمون رسالة “العصا”، وهي عبارة عن عصا يلفون عليها شريطا من الجلد، يكتبون عليها ما يريدونه، ثم يحلونه ويرسلونه إلى الجهة المطلوبة، ولا يمكن قراءة الرسالة إلا إذا التف شريط الجلد حول عصا من نفس المقاس.

ويُعدّ الفراعنة أول مَنْ نظّموا البريد في العالم، حيث كانت الرسائل تُكتب على ورق البردي ويتولى ساعي البريد نقل الرسائل من العاصمة إلى سائر أنحاء البلاد.

وعرفت مصر البريد بشكله الحديث منذ بداية القرن الماضي، حيث استخدمه محمد علي ليصبح في ما بعد هيئة حكومية لها نظمها وموظفوها، وكانت الهيئة خاضعة لموظفين إنكليز، حتى العقد الأول من هذا القرن ثم انتقلت إلى المصريين في العام 1919.

وفي زيارة لمتحف البريد بالقاهرة، والذي يدخل عامه الخامس والستين، كأول المتاحف البريدية العربية، نتعرّف على الأدوات والوسائل والطوابع ونماذج من المكاتب البريدية المصرية والعالمية.

ولدت فكرة إنشاء متحف البريد عام 1934، عندما عقد مؤتمر البريد الدولي بالقاهرة، وتبنَّى الملك فؤاد فكرة الإنشاء واستغرق إعداده 6 سنوات كاملة، ليرى النور لأول مرة ويفتح أبوابه للجمهور عام 1940، واختير أحد أجنحة الدور الثاني بمبنى الإدارة العامة لهيئة البريد بميدان العتبة قبل انتقالها إلى رمسيس ليكون مقرا للمتحف.

متحف البريد المصري الذي يعد من أرقى المتاحف البريدية على مستوى العالم يتكوّن من قسمين. القسم الأول: القاعة الكبرى الرئيسية، وتضم وسائل النقل البحرية والجوية والبرية والبريدية والخرائط والوثائق الإحصائية.

أما القسم الثاني فيضم طوابع البريد بمختلف أشكالها، ومنها الطوابع المصرية منذ إصدارها في العام 1866 وحتى الآن، بجميع أنواعها العادية والجوية والتذكارية والحكومية، ويصل عددها إلى 20 مليون طابع، تعرض منها عينات على الجمهور، أما الباقي فمحفوظ داخل خزينة حديدية. ويضم المتحف أيضا طوابع البريد الأجنبية، وهي طوابع ترد من اتحاد البريد العالمي، ويُعرض جزء منها داخل القاعة، وجزء آخر في ألبومات خاصة بالطوابع، وكل هذه الطوابع تُعرض بطريقة كلاسيكية، إذ يتم عرضها داخل لوحات زجاجية على شكل مروحة دائرية، يسهل تحريكها للاطلاع عليها.

ونتذكر قصة أول طابع بريد في العالم، عندما شاهد رجل إنكليزي يُدعى رولاند هيل، إحدى الفتيات وهي ترفض استلام رسالتها من موزّع البريد، حتى لا تدفع القيمة المالية للرسالة، ففكّر هيل في إصدار طابع يلصق على الرسالة، ويدفعه المرسل مقدما، ووافقت الحكومة البريطانية على المشروع، وكان ذلك في 6 مايو 1840، وظهر الطابع برسم الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا آنذاك. وظهر أول طابع مصري في العام 1865، وبدأ استعماله في الأول من يناير عام 1866، وقد كُتب على حواف الطابع اليمنى، وحافته العليا جهة اليسار كلمة “تمغاي بوستة مصر”، وكان ثمن الطابع يتراوَح بين نصف مليم إلى عشرة قروش، وقد تمت طباعته في مطبعة إخوان بيلاس بمدينة جينوا الإيطالية.

وأما القسم التاريخي فيحتوي على معروضات تُعبّر عن تاريخ البريد في مصر خلال العصور المختلفة، بداية من العصر الفرعوني مرورا بكل من العصرين الروماني والإسلامي، وصولا إلى استخدام الدواب المختلفة مثل الحصان والحمار كوسيلة لنقل البريد في الماضي، وتوجد نماذج مصنعة من الجبس ورقائق الخشب توضح كيف كانت تُقدّم الخدمة البريدية العامة وتشمل موزّعي البريد والمباني البريدية خلال تلك العصور.

ويشمل قسم وسائل النقل جزأين، الأول: وسائل النقل البري التي كانت ومازالت تستخدم في النقل، وهي عبارة عن سيارات ودراجات بخارية ودراجات عادية كانت تستخدم في توزيع البريد العاجل، ونماذج مُصغرة لمكاتب البريد المتنقلة، وهي عبارة عن مقطورة كانت تستخدم بصفة أساسية لأداء الخدمة البريدية ومنها بيع الطوابع البريدية وتسجيل الخطابات. أما الجزء الثاني، فيهتم بوسائل النقل البحري ويضم نماذج طبق الأصل من الوسائل المستخدمة في عهود مختلفة كالبواخر النيلية والبواخر التي استخدمت في مصر وبلاد العالم المختلفة.

وتتنوّع الأختام المعروضة بالمتحف، فمنها ما تم استخدامه في عهد البوستة الأوروبية قبل تمصير البريد، وهي أختام تخليص بدلا من طوابع البريد التي لم تكن قد استخدمت بعد، ومنها أختام البريد المصري بداية من العام 1865 وإلى الآن، وهي عبارة عن أختام تذكارية تصدر للمناسبات المختلفة، وأختام عادية تفيد التسجيل وعلم الوصول، وقسم “الكساوي” الذي يشتمل على نماذج الزي البريدي، منذ بداية الخدمة الرسمية في مصر في ذلك الوقت، حيث تمكن من خلالها معرفة القسم التابع له كل موظف.

12