آثار بلاد الرافدين في مهب الرياح الإيرانية

الآثاريون العراقيون وفي مقدمتهم الدكتور الراحل بهنام أبوالصوف ومعهم علماء بارزون في حقل الآثار يؤكدون أن 90 بالمئة من آثار العراق غير مستخرجة من باطن الأرض، ومنها ما هو مستكشف بنسب قليلة، معظمها في أماكن معروفة محددة، لكن لم تجر عليها عمليات البحث؛ أي أن 10 بالمئة فقط أو 15 بالمئة من كنوز الآثار في المتحف الوطني العراقي أو متاحف العالم هي التي تم التنقيب عنها في سلسلة عقود متتالية، أشرف عليها عدد من الآثاريين بالذات من بريطانيا، ثم تلاهم جيل من الدارسين العراقيين، وهم أفراد توزعوا في اختصاصات منها الطب والهندسة وأيضا الموسيقى والفنون التشكيلية والآثار، في نهضة واعدة تبناها الملك فيصل الأول بإرسال البعثات إلى جامعات العالم قبل نشوب الحرب العالمية الثانية.
كان هؤلاء نواة لتأسيس المعاهد والكليات التي رسخت التعليم الرصين الذي يفخر به العراق خاصة في مجال الطب الذي أنتج لنا الأسماء اللامعة المعروفة، ورغم أن الآثار في كافة الجامعات الشهيرة تعتبر أقساما خاصة ولا تلقى رواجا في التقدّم للالتحاق بها، لكنها تحظى باهتمام نماذج معينة من الطلبة الراغبين في دراسة التاريخ والفلسفة وعلم التنقيب واللغات القديمة وفروع الحضارات، سواء في وادي النيل أو وادي الرافدين حيث الحضارات الأولى المتعاقبة.
العراق كان منذ القدم زاخرا بالتنوع، وآثاره تمتد إلى 7 آلاف سنة وأكثر، وهذا ما تثبته اللقى والمنحوتات، ومنها الثيران المجنحة والمنحوتة على بوابة أسوار الموصل، التي تعرضت إلى التهديم من قبل عصابات داعش باستخدام العبوات الناسفة لصعوبة تحطيمها بالمطارق والجهد اليدوي؛ سبق وأن قمت بزيارة للموقع في زمن الحصار قبل الاحتلال الأميركي للاطّلاع على جريمة سرقة اثنين من الثيران المجنحة بعد تقطيعهما بواسطة النشر إلى كتل متعددة يمكن حملها بواسطة رافعات متوفرة، لكن تجار الآثار لم يفلحوا وتمّ إلقاء القبض على القائمين بالسرقة وأعيدت الكتل إلى مكانها بعد تجميعها بصعوبة، وبقيت تشوهات القطع واضحة في جسد الثورين المجنحين وهما من التحف النادرة جدا في تاريخ البشرية.
كيفية السرقة تلك والزمن الذي استغرقته والإعداد والتخطيط تؤكد الأسئلة المتعلقة بأهمية الآثار في مغزاها الثقافي والمعرفي والمادي، ودور المافيات التابعة لمنظمات تجارة وتهريب الآثار لغايات مختلفة لا تنتمي جميعها إلى ملفات الربح أو الفساد المالي.
ما يهمنا حاضرا، هو مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي وفضيحة سرقة المتحف العراقي في بغداد والمشاهد المؤلمة للعبث وما تبعها من استباحة لكل المواقع الأثرية العراقية.
تتوجه الأنظار دائما إلى دول تشتهر بمتاحفها العالمية وأهمها بريطانيا وفرنسا وأميركا ودول أخرى بنسب متفاوتة؛ إن أميركا وبريطانيا وبعد اجتياحهما العراق في أبريل 2003 من الممكن اعتبارهما لاعبين أساسيين تحت الأضواء في موضوع سرقة الآثار، وإن كان الأمر يتعلق في أحيان كثيرة بتصرفات شخصية من الذين خدموا في القوات المحتلة لتلك الأماكن الأثرية التي تتوفر فيها متاحف صغيرة تحتوي على معروضات مهمة.
ما إن أقدم الدواعش على تهديم آثار نينوى؛ حتى فاتحت إيران اليونسكو، معلنة استعدادها "لاستضافة" آثار العراق
اللاعب المجهول البراغماتي النزعة كالعادة هو نظام الملالي في طهران، نظام لا يكف عن بسط نفوذه وسيطرته على أرض العراق، وباطن أرضه أيضا؛ وما إن غاب الحكم الوطني في بلاد الرافدين حتى “غاب القط ولعب الفأر” رغم أن فئران النظام الحاكم في إيران كانت تتسلل إلى العراق على شكل فتن مختلفة.
وما إن أقدم الدواعش على تهديم آثار نينوى بتلك المشاهد المروعة التي طالت معالم الثقافة والتراث الإنساني؛ حتى فاتحت إيران منظمة اليونسكو، معلنة استعدادها لـ”استضافة” آثار العراق؛ يذكرنا ذلك بمصير طائرات العراق التي سُلّمت إلى إيران كأمانة قبل حرب الخليج 1991.
المتاحف الإيرانية، ربما تكون من أكثر المتاحف التي تحتوي على آثار عراقية غير معترف بمصادرها، لأن غطرسة نظام الملالي تتجاوز المواثيق الدولية المنظمة للعلاقات في كل المجالات، فهي تتناوب وتنتقي ما يمرر لها مشروعها ولوثة حلمها الإمبراطوري، تستعين مرة بالطائفية ومرة أخرى بشعاراتها القومية وبثرثرة قادتها وتناقضهم، ما أدّى إلى فوضى صادمة للوعي في المنطقة؛ فإيران تعتبر العراق جزءا منها وبغداد عاصمة لها، ولأنها مصابة بالغيبوبة لذلك تعود إلى فترات من تاريخها كان فيها العراق تحت سيطرة ما يعرف ببلاد فارس قبل الإسلام؛ وتطلق عليه في أدبياتها “التاريخ المشترك”، والمقاصد واضحة.
مشروع الملالي يعتبر الأرض العراقية وما عليها تحت تصرف إيران بعد استيلاء أحزابها ومقالديها على سلطة جاء بها الاحتلال الأميركي، ومن البديهي أن ما تحت سطح الأرض من آثار يعود إليها؛ ومع وجود المزيد من عملائها في الوزارات والمديريات وعلى رأس السلطة، فهي تسعى إلى توقيع وتثبيت مذكرات تفاهم أو تعاون في مجالات ثقافية وتعليمية ومنها طبعا ما يتعلق بالآثار.
منطقة المدائن القريبة من بغداد وفيها طاق كسرى وإيوانه؛ اقترحت إيران أن تكون على لائحة التراث العالمي كأثر إيراني، في العام المقبل، بعد إعداد ملف يقدمه العراق؛ تحوي المدائن ضريح الصحابي سلمان الفارسي وتسمى المدائن منطقة سلمان باك نسبة له، ولأن الملالي يستغلون كل صغيرة وكبيرة، أصبحت تلك البقعة من أرض العراق بعد الاحتلال مكانا لسفك الدماء من قبل ميليشياتهم، حتى تم لهم ترويض المنطقة طائفيا؛ ولو أراد العرب والمسلمون التصرف بالمثل لكانت إيران عربية لكثرة آثار العرب فيها بعد الفتح.
هناك مسروقات لآثار لم يكن بالإمكان غض الطرف عنها، وقد اعترفت إيران بمصادرتها من المهربين، لكن رغم المطالبات العراقية العديدة بتسليمها، فإنها تماطل بالترغيب والتهديد، والجهات العراقية بدلا من أن تتعاون مع أرقى مراكز صيانة المخطوطات أو في مجال التدريب على تقنيات وأعمال فنية، أناطت المهمة بعهدة الجانب الإيراني.
ما أثار الكتابة حول هذه القضية أخبار متواترة من مواطنين عراقيين يتم تشغيلهم في أعمال حفر أو نبش جائر للبحث عن آثار من قبل إيرانيين، ربما لهم علاقة بالتنقيب لكنهم يعملون لصالح شخصيات أو عصابات تهريب أو لأهداف أكثر غموضا، والأخطر هو صمت الجهات المختصة تجاه حقيقة ما تم ترحيله إلى إيران من آثار بموافقة الجهات الرسمية.
وما يبعث على القرف هو أن نظام الملالي في طهران يعرض استضافة آثار بلاد الرافدين خوفا عليها من داعش، وهو النظام الذي لم يترك على أرضنا سوى الريح تصفر في الخراب.