"الجديد" تستدرج الكاتبات والكتاب العرب إلى طفولاتهم

الكتابة عن الطفولة أو اختيار مشهد منها والبناء عليه بوصفه نقطة تغيير حاسم في كل ما سيحدث لاحقاً هو ما فاجأت به مجلة “الجديد” كُتَّابَها -قبل القرَّاء- في العدد الذي حمل الرقم عشرين والصادر في الأول من سبتمبر الجاري.
مجلة “الجديد” التي انطلقت قبل ما يقارب العامين بوصفها منبراً ثقافياً حرّاً ينتصرُ للثقافة العربية ويسعى للأخذ بيدِها نحو النهوض وعدم الاستسلام للواقع الصعب، استطاعت أن تترك بصمات واضحة بأعداد متوالية فكانت أفكارُ ثيماتِها مفاجئة صادمة في الطرح والمضمون والاتجاه والنتائج، ولأنها هكذا ارتأت في عددها الأخير أن تكون جامعة لعوالم مجهولة بالنسبة إلى الكثيرين، العوالم الأولى والفضاءات البعيدة لمَن استطاع في ما بعد أن يشكِّل لبِنَةً في معادلة الثقافة العربية بكل مساراتها، هذه العوالم التي قد لا يلتفت إليها أحد أو لم يحدث أبداً أن تمّ تداولها بالصحافة العربية بوصفها مشروعا بحثيا قد يؤسس فيما بعد لآلية جديدة في نقد النتائج أو المُخرَجات الثقافية ككل.
الكاتب يولدُ مراراً، فكلُّ عمل روائي، قصصي، مسرحي، شعري هو مولدٌ له، روح جديدة تدفع بفكرة موت إنتاج المؤلف خطوة أخرى إلى الوراء، لذلك فاستناد الكاتب إلى فضاءات يعرفها جيداً سواء في مراحله الأولى أو في مسيرة بناء معارفه التراكمية يمثِّل الركيزة الأهم في إنتاجه الأدبي سواء أكان ذلك ضمن الأعمال الواقعية أم ضمن تلك التي تستمدُّ عوالِمَها من المخيال الذي يكون في غالبِه صورةً أخرى لواقع لا يظهر في الحقيقة.
الكتابة عن مرحلة الطفولة تعني العودة إلى البدايات وسرد ما يمكن في أقل المشاهد وأكثرها التصاقاً بالعاطفة، وهنا يكمن الخطر في أن يكتب السارد أو الشاعر عن نفسه بشكل خالص، عن أناس يعرفهم وعاش معهم وحملوا وحملَ جزءاً من الذاكرة المشتركة، لذلك تعني الكتابة عن تلك المرحلة كشفاً مهماً قد يؤسس لبحث أعمق في الحالات الانفعالية التي مرَّ بها الكاتب قبل أن يكون كاتباً من غضب وفرح وحزن وخيبات وانتكاسات وانتصارات، هي صورة الحياة لذلك أيضاً تعني الكتابة عنها شيئاً مهماً للكاتب والمتلقي في الوقت ذاته فهي في كنهها تصدر عن أعمق النقاط وأصفاها، وتستند كما رأينا في المواد المنشورة ضمن العدد إلى قوَّتين؛ الأولى تلك النابعة من عالم الطفولة والأخرى القادمة من مكَنَةِ الكاتب وقدراتِه الإبداعية في استجلاب تلك المشاهد وقَولَبَتِها دون إعمال الخيال فيها لتكون شاهداً عليه في طفولته.
الكتابة عن مرحلة الطفولة تعني العودة إلى البدايات وسرد ما يمكن في أقل المشاهد وأكثرها التصاقاً بالعاطفة، وهنا يكمن الخطر في أن يكتب السارد أو الشاعر عن نفسه بشكل خالص
لذلك طغت حالة الدهشة أو عدم الاستيعاب لعالم متناقض في مراحله المختلفة على أغلب النصوص تقريباً وتقاطعت بوجود صورةٍ للدكتاتور الذي يتَّخِذُ عباءات عديدة يظهر ويختفي بها سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الديني.
فنون الكتابة عموماً لا تتحقق قبل أن يصل الكاتب إلى ذلك الطفل المتواري فيه، عليه أن يُخرِجهُ بكلِّ تناقضاتِه وطيشه وتقلُّباتِه قبل أن يضع ذاكرته الطريَّة في مختبر الكتابة الإبداعي، وهذا ما تفرَّدَت به “الجديد” بأن دفعت 65 كاتباً بالعربية نحو هذه الخطوة المؤجَّلة، الخطوة التي تقعُ دائماً بين عالَمين أحدهما لا يملكُ الإنسان شيئاً منه والمتمثّل في ما قبل الولادة، والثاني الذي تلوِّثهُ الحياةُ بكلِّ مساراتها، فاستلهام الجمال من مرحلة الذاكرة الأولى والنبش فيها ووضعها أمام القارئ والكاتب معاً يشكِّلُ تحدياً لكلَيهِما، ذلك التحدي الذي يقوم في عموده الفقري على فكرة إعادة الاكتشاف.
في استعراض سريع لكل القصص المنشورة نجد أنها اعتمدت مبدأ التكثيف السردي بوصفه نقطة ارتكاز تتفرع منها دوائر لأشخاص آخرين، تلك الدوائر سارت وِفقَ زمَنَين و مَكانين أحدهما عمودي متحرِّك، والثاني أفقي ثابت القرار، منتهي الإرادة والفعل، أخصُّ هنا الكُتَّاب المُنتَمِين إلى بلدان شهدَت حراكَ الربيع العربي فكانت السرود الواردة من عُمقِ تلك القرى والمدن صورة واضحة عن القهر السياسي والاجتماعي وحمَلَت في مُجمَلِها مؤشرات على ضرورة حدوث فكرة التغيير، فالطفولة التي وُلِدت أيضاً بعد انتكاسات أو خيبات وانكسارات عاشتها تلك المجتمعات لا بدَّ بشكلٍ أو بآخر أن تكون صورة عنها، صورة تدفع بالجميع للبحث في ارتداداتها اليوم في نفوس الكتَّاب والشارع معاً.