صراعات المنطقة تعيد هيكلة النظام العالمي

يشهد العالم تغيّرات على صعيد توزيع القوى وتنامي السياسات الدفاعية والعسكرية المتدخلة في شؤون الدول، مع تحرك مركز الثقل من الغرب إلى الشرق، وسط توقعات بصراعات عالمية وحشية تؤدّي إلى اختلال ميزان القوى؛ ومركز هذه الصراعات هي المنطقة العربية التي ظلت لسنوات طويلة خاضعة لـ”الوصاية” الأميركية، واليوم من المأمول أن تترافق مع تحول العالم نحو نظام متعدد الأقطاب رؤية عربية متعددة الأبعاد تقوم على تنويع العلاقات والارتباطات السياسية والاقتصادية مع الفاعلين الجدد في النظام العالمي وتكون أقدر على التفاعل مع قضايا الأمن العربي والخيارات الاستراتيجية المتاحة‎ بعيدا عن “الوصاية” الأميركية.
الأربعاء 2016/08/31
من يطفئ حرائق المنطقة

باريس - بشّر زبغينو بريجينسكي، مستشار الرئيس الأسبق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، في مقال حديث له بمجلة أميركان إنترست، بميزان قوى عالمية جديد في طور التكوين، وطبعا ستكون للولايات المتحدة الأميركية ريادة هذا الميزان، لكن وفق المتغيرات العالمية الراهنة، فإنها لن تكون القوة الإمبريالية الكونية التي كانت، ولا توجد قوة أخرى بوسعها القيام بهذا الدور.

ووفق قراءة الاستراتيجي الأميركي وأستاذ السياسة الخارجية الأميركية في جامعة جونز هوبكنز ستحيل التطورات الراهنة نحو عالم، ولئن بقيت قيادته بيد الأميركيين، فإنه سيكون غالبا عليه طابع التحالفات وتعدد القيادات. ولأن ملامح هذا الميزان بصدد التشكل انطلاقا مما يجري في المنقطة العربية، فماذا يمكن للعرب أن يفعلوا في حالة اختلال سياق التوازن الإقليمي الذي اعتادوا عليه لسنوات طويلة، وما هي فرصهم في الإفلات من شبح الفوضى وتأسيس كيانات هشة موازية في عرض البلاد العربية وطولها.

لم تعد الترتيبات المنصوص عليها في ميثاق جامعة الدول العربية، تشكل مرجعا كافيا لصياغة تصورات مشتركة لحل أولويات القضايا الأمنية وتعقيدات آثار المنافسة والصراع في الساحة الدولية على القضايا العربية، في ظل ضخامة التحديات الأمنية التي تواجهها دول المنطقة؛ بينما تؤكد تحديات الجغرافيا السياسية الراهنة أن مختلف دول المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج تواجه تحديات مشتركة كيفما كانت مكونـات أو اختلافات هذا البلد العربي عن ذاك.

تحالفات إقليمية وأجندات مختلفة

برزت مؤخرا رغبة جامحة في تسعير الحرب بمختلف الجبهات العراقية والسورية واليمنية. وكيفما كانت تحولات المناقصات والمقايضات الأميركية والروسية والإيرانية الظرفية في شباك التذاكر السوري والعراقي واليمني، فإن ذلك في النهاية، لن يغير من أهداف المعادلات الاستراتيجية التي جاءت على خلفية التدخل الأميركي في العراق وتكلفته العالية ثم إحجامه عن التدخل في سوريا، وتداعيات التدخل الروسي الذي سعى إلى ملء الفراغ، والذي شكل حالة انعطاف تـاريخي جديــدة في العلاقة الروسية- العربية.

هدف بناء التوازن الاستراتيجي الإقليمي بين دول المنطقة لم يتحقق، بل اختل لصالح غيرها من القوى

جرّ انهيار المحور التقليدي السعودي- المصري - السوري تحولات جيوسياسية في الشرق الأوسط، وأربك حسابات النظام العربي بتغيير مسعى التوازن لصالح إيران التي تعمل على التجييش المذهبي. ولا غرابة، حين يزعم علي يونسي مستشار الرئيس روحاني، ووزير الاستخبارات السابق في حكومة الرئيس محمد خاتمي بأن بلاده تنوي تأسيس “اتحاد إيراني” في المنطقة، ثم يعلن المتحدث الرسمي باسم الحرس الثوري بأن “هناك قيادة مشتركة جديدة لقوات الثورة الإيرانية الخارجية تشمل العراق وسوريا واليمن”.

ومن ناحية العلاقة مع تركيا، لا يزال النظام العثماني الجديد تداعبه أحلام الإرث السلطاني، حيث مازال النظام مستمرا في مطالبته الدول العربية بالتخلي عن إطارها الجامع، جامعة الدول العربية، والاكتفاء بانتمائها إلى منظمة التعاون الإسلامي. ومؤخرا نجحت تركيا في تحقيق تدخل مباشر إلى المستنقع الدموي السوري، وذلك بتأسيسها لـ”ميليشيات عثمانية” جديدة في سوريا، من أجل تركيز سياساتها على ضرب الأكراد بنقل صراعها معهم داخل الأراضي السورية.

والواضح أنه في ظل اختلاف درجات الخطر، أصبح العالم العربي عاجزا عن إدارة ملفاته ودرء تفاعلاتها، سواء كانت قريبة أو متوسطة المدى، بحيث مازالت عدة دول عربية تميل بدرجة كبيرة إلى اللعب بالنار بتأكيد تحالفاتها مع إحدى دول المحور الإقليمي المنافسة، أو تسعى إلى تعزيز تعاونها مع إحدى القوى الكبرى، سواء بصورة ثنائية، أو تسعى إلى تفضيل تشبيك أمنها بمسميات مختلفة. هذا في الوقت الذي تراجعت فيه أهمية خلق هوية أمنية عربية جامعة بشأن المصير المشترك كوحدة إقليمية جغرافية ممتدة، ومتصلة بأقاليمه الثلاثة تاريخيا وثقافيا ودينيا، مما لم تعد معه تصريحات برنار باجولي، مدير المخابرات الفرنسية ونظيره الأميركي جون برينان المشتركة بأن “الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة” مجرد تكهنات، أو كما أوضح أندرس فوغ راسموسن أمين الحلف الأطلسي في الندوة حول الحل في سوريا بأنه لا يرى حلا دون “تقسيم سوريا في إطار التوزعات الإثنية والدينية على غرار ما وقع في البوسنة والهرسك وفقا لاتفاقية دايتون عام 1995”.

انهيار المحور التقليدي السعودي- المصري – السوري جرّ تحولات جيوسياسية في الشرق الأوسط، وأربك حسابات النظام العربي بتغيير مسعى التوازن لصالح إيران

بدائل جامعة مطروحة

لا يتعلق الأمر إذن أمام جسامة هذه التحديات بقدرة إحدى الدول العربية على مواجهتها بمفردها، وليس بمستطاع أي واحد منها أن يبحث بمفرده على حلول، فالمخاطر الحالية جماعية ومتصلة اتصالا وثيقا بالتاريخ والجغرافيا من المشرق إلى المغرب، ويعدم فيها الواحد أن يمتلك لوحده كل سبل وإمكانيات مواجهة التحديات التقليدية وغير التقليدية (تنامي خطر الإرهاب، الاختراق الخارجي، الأمراض الجائحة، الكوارث الطبيعية…)، فهذه التحديات تلقي بما لا يدع الشك، بظلال سوداوية على كل المكتسبات التنموية التي تم تحقيقها في إطار الدولة الوطنية.

وباتت معه الأزمات المفتوحة تفرخ بدورها أزمات جديدة أكثر عنفا وامتدادا إن لم تتم مواجهتها جماعيا في إطار تحالف أمني جامع تقوده رؤية سياسية براغماتية وليست أيديولوجية، كما أن الصعوبات الاقتصادية الظرفية في بعض المناطق العربية بدورها، أصبحت تهدد وتضغط من ناحيتها بإضافة خطر تداعيات ارتفاع البطالة وازدياد الفقر وانخفاض النمو وتفاقم الحيف الاجتماعي، وهو ما لا يجعل دولها قادرة على أن تبارح حالة عدم الاستقرار والقلق وتسلل الإرهاب.

والحقيقة، أن البحث عن الخيارات العربية أمام أخطار متحركة بهذه الجسامة ليست معدومة، وتبدأ واقعيا من جهود المملكة العربية السعودية في إرساء سياسة قوامها العزم والحسم في مواجهة الأخطار كما حدث في اليمن في 26 مارس 2015، ووجد له في تشكيل قوى “التحالف العربي” لبنته الأولى لبناء تكتلات وتحالفات جديدة، مما عكس تحوّلا هاما في تطوير الاستراتيجية العربية وانفتاحها بالرغم من الاختلافات القائمة حول هذا الملف أو ذاك، وسيكون على عاتق التحالف آجلا أم عاجلا الخروج من تآلفاته الظرفية، من أجل استكمال بناء قوة عربية مشتركة، ومن دون نظام أمني إقليمي عربي جامع لنظامه الجغرافي، لن ينجح أي مشروع عربي جديد، في أن يكون قوة في سياق التوازن العالمي الجديد.

باحث في جامعة السوربون

7