البحار تحمل في أعماقها أسرار مستقبل التنمية ومفاتيح تفوقها

يبدو أن العالم بدأ يقتنع أكثر بنظرية الضابط في البحرية الأميركية والمؤرخ الأميرال ألفريد ماهان التي تقول إن قوى البحر تتفوق على قوى البر لأنها أكثر حصانة لإحاطة المياه بها من كل جانب، وهي التي تتحكم في حركة التجارة البحرية أثناء السلام والحرب، وبالتالي تتمكن القوى المتمكنة منها من السيطرة العالمية.
الخميس 2016/08/04
القوة البحرية لم تعد أساطيل وقواعد عسكرية فقط

اكتسى موضوع الجيوسياسة البحرية منذ وقت طويل أهمية خاصة نظرا للرهانات المحيطة بالبحار سواء كانت اقتصادية، مرتبطة بأهمية الموارد البحرية والتجارة، أو عسكرية مهتمة بضمان حرية النقل في الممرات البحرية، وحماية المرافئ والحدود وامتداد النفوذ.

لكن درجة الأهمية اليوم اختلفت كثيرا عما كانت عليه قديما، فمن المؤكد أن مختلف مجالات الحياة، قد تنهار بسرعة فائقة لو توقفت المبادلات وانقطعت المواصلات البحرية، وذلك بسبب طبيعة العولمة الاقتصادية القائمة على ترابط حلقات الإنتاج في إطار التقسيم الدولي للعمل وإعادة تشكيل مستقبل الأفراد والأمم والأعمال.

وتحيط ثلاثة مؤشرات جديدة بالرهانات حول البحار والمحيطات في المستقبل القريب؛ أولها يكمن في الضرورات الاقتصادية المرتبطة بحتمية نضوب الموارد البرية بعدما بلغ استغلالها مداه، وهي عموما في طور الاستنزاف، لذلك، يبرز الاهتمام أكثر من أي وقت مضى بموارد وثروات العالم البحري والمحيطات نظرا لحجمها الذي يبلغ 70،7 بالمئة من مساحة سطح الكرة الأرضية.

ولا تزال هناك مناطق في الأعماق لم يصل لها العلماء ولم يكتشفوا ما بها من أسرار، حيث تظل 95 بالمئة من أعماق المحيطات وكنوزها في عداد المجهول.

وفي الواقع، سيفتح هذا الوضع الباب أمام إمكانية ظهور حدود جديدة في ابتكار طاقة بحرية متجددة من جراء تزايد الاستهلاك العالمي بمعدلات كبيرة من المعادن الموجودة في أعماق البحار والمحيطات ومعادن الأراضي النادرة (أكثر من 17 معدنا أصبحت لها أهمية استراتيجية في صناعة الهواتف المحمولة والكمبيوترات وبطاريات المحركات الهجينة، والليزر والهوائيات)، ما يجعلها حتما في قلب التنمية الاقتصادية العالمية القادمة.

الصين مثلا تضاعف فيها الاستهلاك السنوي من النحاس بأكثر من 180 بالمئة بين 2010 و2014، ونفس النسبة طالت استهلاك المعادن الأساسية والنادرة أو الاستراتيجية، وهو ما يجعل كل الأنظار تتجه نحو سبر أغوار البحار، بالإضافة إلى أن التقنيات البحرية المتجددة تضم وسائل عديدة لإنتاج الطاقة المتجددة وتوفير الحرارة بفضل الهوائية البحرية (طوربينات التيارات البحرية، وطاقة الأمواج، وحركة المد والجزر، والحرارية البحرية (استغلال فارق درجة الحرارة بين سطح البحر وأعماقه) والملوحة والعذوبة).

الطاقة الزرقاء يمكن أن تكون رافعة للتنمية العربية شريطة أن تدفع الدول العربية في اتجاه الاهتمام بالطاقة النظيفة

لكن هذه الآفاق الواعدة مازالت لا تحظى باهتمام بالغ في العالم العربي، بحيث ليس هناك اهتمام كبير بتحصيل التقنيات اللازمة، نظرا لحجم التكاليف الباهضة التي تقتضيها استثمارات من هذا النوع والتي تقتضي إرادة سياسية مشتركة.

لذلك ليس من قبيل الصدفة أن يزداد طلب الترخيص الذي تقدمه الكثير من الدول لدى الوكالة الدولية لأعماق البحار (للسماح لها بإجراء الاستكشافات والمسح الخرائطي وسبر أغوار البحار التي يوجد عدد كبير منها في المنطقة العربية).

البحار في نظام العولمة الاقتصادية

بالرغم من كون المرحلة الحالية هي مرحلة استكشاف وتجريب وإعداد، وفي انتظار أن تتم عمليات المسح الخرائطي، وتحديد المواقع البحرية المهمة وتطوير طرق الاستكشاف والغوص وتخفيض كلفة الاستثمارات الضخمة، وحصر تصنيف سائر النباتات والحيوانات البحرية، فإن الأهمية المعدنية والغذائية والصيدلية التي توفرها أعماق البحار والشعب المرجانية، ستولد بما لا يقبل الشك دينامية جبارة وفرصة لتحقيق مكاسب استراتيجية جديدة في مجال التنمية والتطور العالميين.

ونجمت أهمية البحار في نظام العولمة الاقتصادية عن تشابك ثورة الناقلات الضخمة العائمة والشبكات الرقمية اللتين ساهمتا بقسط وافر في توطيد حركتها بعد تراجع النموذج الفوردي المندمج الذي كانت المؤسسة الصناعية تقوم فيه بمجموع الأدوار الضرورية لإنتاج بضاعة معينة، بحيث غالبا ما تقوم الشركات اليوم بتجميع قطع غيار من مناطق مختلفة من العالم، فجهاز الأيبود الرقمي الخاص باللعب، وتخزين ملفات الصوت والفيديو تبدأ حلقاته من تجميع القرص الصلب الذي تنتجه شركة توشيبا، ومحرك الأقراص المرنة الذي تنتجه شركة نيديك، ومُعالج المعلومات، ورقاقة رقمية في الهند، ومجموع الدارات الكهربائية المرتبطة بمنفذ واحد في وحدة المعالجة المركزية، والذاكرة الضوئية التي تنتجها شركة شارب، بحيث تضطلع شركة اينفانتاك التايوانية في الأخير بالتجميع لهذا المشغل الموسيقي الرقمي الذي تم ابتكاره في عام 2001.

آفاق واعدة

من المرجح أن تكون الطاقة الزرقاء في مقتبل عام 2020 رافعة للتنمية العربية شريطة أن تدفع الدول العربية في اتجاه الاهتمام بالطاقة النظيفة التي تأتي فيها الطاقة البحرية في الصدارة؛ وذلك إذا وعت أن أهميتها تفوق الطاقة الأحفورية والطاقة النووية مستقبلا، سواء عبر رعاية مشاريع مشتركة في حقول الطاقة الهيدورليكية، والطوربينات الهوائية العائمة، وطاقة البحار الحرارية.

ولا يزال الوقت يسمح للدول العربية بأن تحقق إنجازا في هذا السياق من خلال اتباع منظور استراتيجي دقيق يشمل الانخراط في اكتساب الآليات التقنية وتوفير الاستثمارات المشتركة كسبا للوقت والتجربة وتحصيلا للمعارف العلمية والتقنية الضرورية ودخول سوق المنافسة مبكرا لتطوير طاقات متجددة متنوعة من خلال ما تمتاز به من مقومات بحرية طبيعية، فالطاقة الهيدروليكية وطاقة الأمواج، وطاقة التيارات تحت المائية، وإقامة مزارع هوائية عائمة، لا يخلو منها أي بلد عربي يتمتع بسواحل بحرية، وهذه الطاقة تتوفر اليوم على تكنولوجيا بلغت حد النضج عالميا، ويمكن بسهولة ربطها بالشبكات الكهربائية المتوفرة.

وتفتح طاقة البحار الحرارية آفاق تنمية واعدة لأنها تقوم على استغلال فارق الحرارة بين أعماق البحار والمحيطات وسطح البحر، وذلك بتوفير معدات تعديل الحرارة ووسائل ضخ كبرى للمياه البحرية في المواقع المختارة، وهو ما تقوم به حاليا أوروبا من خلال مشروع نيمو الذي قام ببناء محطة عائمة تنتج 10 ميغاوات في جزيرة المارتنيك الفرنسية.

ويمكن في هذا الإطار أيضا استغلال الموارد الأحفورية التي تقع في أعماق البحار سعيا منها في التكيف وتعزيز تجاربها السابقة في استغلال الموارد الأحفورية البرية. وقد بدأت الدول المتقدمة والشركات النفطية الكبرى فعليا في توجيه اهتمامها للبحار والمحيطات التي ستصبح أكبر خزان وراثي وبيولوجي ومعدني في الألفية الثالثة وأمل الإنسان القادم.

أهمية عسكرية

يكرس التوجه نحو مزيد استغلال البحار والمحيطات التوترات القائمة في مناطق استراتيجية مثل بحر الصين وباب المندب وخليج سرت الليبي. وهذا يفسر أهمية السلاح البحري اليوم، والرغبة المستعرة للعديد من الدول في تطوير قوتها العسكرية البحرية التي أصبحت أداة للفعل الاستراتيجي وحماية السيادة الوطنية لا يمكن تجاوزها، بالإضافة إلى السباق المحموم للحصول على صواريخ كروز في الفرقاطات البحرية والغواصات الهجومية التي تنقل إمكانية الإصابة إلى مدى أوسع يصل إلى 2500 كلم كما تتيحه صواريخ توماهوك الأميركية.

ويضاعف من هذه الأهمية الاستراتيجية مبدأ حرية التنقل الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة، والذي لا يستدعي تقديم أي طلب للحصول على ترخيص للحركة في البحار ما يتطلب مرابضة ضرورية للرد دون إعلان، إذا تطلبت المصلحة العليا ذلك.

7