مصلحو الساعات القديمة.. نادرون ويعرفون الناس مما تحمله معاصمهم

الرباط - قد يجد الباحث عن مختص في إصلاح الساعات القديمة نفسه يجول ويطوف ويسأل في مناطق بعيدة عن مركز العاصمة أو في العشوائيات، ولو بحث مثلا في القاهرة أو بغداد أو صنعاء أو الجزائر أو تونس أو الرباط عن أحدهم، لوجده بعد مشوار طويل ومضن من السؤال والتجوال في هذه العواصم.
وفي أغلب الحالات يرمي الحظ السيء بالباحث عن مصلحي ساعات قديمة بين أيدي أحد المحتالين أو النصابين الذي يعمد إلى الغش في تصليحها، حيث يُروى أن البعض من هؤلاء يعمد أحيانا إلى وضع حشرة صغيرة في محرك الساعة القديمة العاطل، فتؤدي مهمة تشغيل الساعة ليومين أو ثلاثة وما إن تموت الحشرة حتى يتوقف نبض الساعة.
الحاج محمد المنقاري (75 عاما) أمضى 60 سنة في تصليح الساعات في مدينة الرباط، ولا يزال يدير محلا صغيرا ينزوي في منطقة النهضة الشعبية يقول لـ”العرب”، إنه في كل مهنة يوجد عدد من النصابين والسبب يعود إلى أن الناس لم تعد تصلح ساعاتها الحديثة بل تلقيها في المهملات في حال تعطلت عن الاشتغال. وإذا كانت الساعة المعطلة من الماركات القديمة، فتصليحها يكلف غاليا، لندرة قطعها، لذلك يقوم بعض المصلحين بخداع الزبون بتصليح صوري لا يدوم كثيرا وهدفهم الوحيد هو الحصول على مقابل مادي للإصلاح. أما إذا كانت الساعة من إحدى الماركات الحديثة كسامبرين دايت التي يبلغ سعر الرجالية منها 50 ألف دولار، أو من ماركة رولكس بأربعين ألف دولار أو كوزوموغراف وغيرها، فسيتم تصليحها عبر وكلاء هذه الشركات بالدار البيضاء.
ويضيف المنقاري أنه خلال أربعينات القرن الماضي كان محله في مركز مدينة الرباط وكان يتولى إصلاح ساعات قناصل فرنسا في المغرب وموظفيها وأكابر رجال الحكومة المغربية. لكن خلال فترة التسعينات نقل محله إلى هذا السوق الشعبي نظرا إلى قلة الزبائن وارتفاع إيجار المحلات وسط المدينة. وللمنقاري الكثير من الذكريات والطرائف مع الساعات القديمة التي يعتبرها “هوية المواطن”، ويوضح أنه يكفي أن يرى ساعة الشخص حتى يعرف ماهية هذا الشخص ومكانته الاجتماعية.
ويقول محدثنا عن ساعات الأجداد إنها ذات ماركات معينة مثل زينيث وبياجيت وهاري ونستون وإنترناسيونال السويسرية ولها أشكال دائرية ومربعة ومستطيلة وأن الثمينة منها لها غلافان، الأمامي ويغطي لوحة تقسيمات الوقت، أما الخلفي فيغطي عدسة مكبرة ترى من خلالها أحشاء الساعة وحركة تروسها.
كلما ازدادت الزخارف على الساعات واتقنت صناعة أغلفتها الخشبية كلما ازداد سعرها وارتفع ثمن تصليحها
وساعات الجيب يتم ربطها بواسطة سلسلة لمن يريد وضعها في جيبه الأمامي، وهذه الأنواع كانت تقليعة الشباب من موظفي كبار البعثة الفرنسية في المغرب، وموظفي الحكومة في خمسينات القرن الماضي، ولا يملكها إلا الأغنياء نظرا إلى غلاء أسعارها. ويواصل المنقاري حديثه ضاحكا، كنت أعرف رتب الموظفين السامين من خلال ساعاتهم اليدوية أو من خلال الساعات الخشبية في بيوتهم، فأنا أقول لزبوني الفقير من الموظفين “عرفت أحوالك من شهادة فقرك التي تحملها حول معصمك أو تقتنيها في بيتك، فيشاطرني الضحك معربا عن إعجابه بفراستي”.
وكلما ازدادت الزخارف على الساعات واُتقنت صناعة أغلفتها الخشبية وتعددت تشكيلات الأجراس والنغمات التي تصدرها، كلما ازداد سعرها وارتفع ثمن تصليحها. وهناك ساعات تقليدية وأخرى لها أقراص مدرَّجة وعقارب وأخرى بلا عقارب، ولها أجراس، وأخرى تحدث موسيقى خاصة. وكان من يريد تعلم مهنة تصليح الساعات يذهب إلى الدار البيضاء، ليتدرب عدة شهور في وكالة رئيسية لبيع الساعات السويسرية بحسب المنقاري، وتهديه الوكالة بعد التخرج عُدة لفتح ومعالجة تروس الساعات مع مخرطة صغيرة يستخدمها لتهيئة الأجزاء التالفة من التروس أو أي جزء آخر في حالة عدم توفر المادة الاحتياطية.
ويؤكد المنقاري على أنه ما إن استقرت أموره وفتح محلا لتصليح الساعات في الرباط، حتى بدأ يساعد الموظفين الصغار بأجور رمزية لتصليح ساعاتهم المتهالكة. وكانوا يردون له الجميل بمدح دقة إصلاحه وحرفيته لدى رؤسائهم في العمل، الأمر الذي كان يجذب له المزيد من الزبائن إلى درجة أنه كان لا يجد الوقت الكافي لتصليح كل ما يصل إلى محله. ويقول إنه حينما فكر في تعليم جارين له معوقيْن لا يستطيعان الحركة إلا بصعوبة، أخذ يحمل لهما ما يفيض عليه من الساعات العاطلة، ليتوليا إصلاحها تحت إشرافه حتى تعلما وصارا معلمين لهما محلان في الجانب الغربي من العاصمة. ويذكر ضيفنا أن أحد جيرانه قصده ذات يوم برفقة ابنه الأعمى وطلب منه أن يعلمه مهنة تصليح الساعات ليعيش منها، ويؤكد أن الصبي كان ذكيا ومع ما بذله معه من جهد صار يصلح الساعات معتمدا على حاستي اللمس والسمع.
ويرى الزائر لمحل المنقاري الصغير أنواعا كثيرة من الساعات القديمة منها والجديدة، وقد ظهر بعضها في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، فهناك ماركات معروفة وأخرى غير معروفة وساعات أخرى رقمية ظهرت في ستينات القرن الماضي مثل كوارتز ومنها الرياضية وهي زهيدة الثمن أثرت بدورها على أحوال مصلحي الساعات، فهجر الكثير منهم هذه المهنة.