دراما في خدمة الأدب
خلال زيارة إلى تولوز في جنوب فرنسا، تذكّرت الشاعر والكاتب جاك بريفير وديوانه “الكلمات”، كما تذكّرت الشاعر التونسي منوّر صمادح جريح الكلمات، وستبقى الكلمات..
ماذا لو عكسنا الأمر؟ هنا نتحدّث عن ظاهرة قلّ أن تحصل في العالم، إلاّ في مدينة اسمها تولوز، إنّها الدراما في خدمة الأدب، لا كما جرت به العادة وما هو معمول به في أشهر المسلسلات العالمية والعربية على حد سواء، بل وحتى في أعرق الأفلام السينمائية المرجعيّة التي أساسها ومُنطلقاتها ما خُطّ بين دفّتي كتاب.
في تولوز، وتحديدا في مهرجانها السنوي “ماراثون الكلمات” -وكم الجملة حمّالة للعرق والألق الإبداعي- الذي بلغ من العمر اليوم 12 ربيعا، فيه يتحالف كلّ النجوم دون استثناء، نجوم تلفزيون وراديو ومسرح وسينما وإعلام، بل والغناء أصلا لخدمة الكتاب المُنجز حديثا قبل أن تتلقّفه الأيدي المُتصفحة والعطشى لالتهام الكلمات، وما بين الكلمات من صور ومشاعر، تستطيع أن تكون، بل وستكون، حتما، عملا دراميا أو فيلما سينمائيا قادما على مهل الأصوات القارئة له، والآذان السامعة لتفاصيله، والأعين المُترقّبة لمُشاهدته في شكل سيناريو يُطبخ بلين.
في تولوز مدينة الأنهار والجسور، الكلّ يقرأ الأدب في الميترو، في الساحات، بين ثنايا حدائق الورود، في الكنائس، في المتاحف وأيضا في المسارح قبل رفع الستار، وبعد إسداله أيضا.
هي عادة تولوز وأهلها مع الكتاب في سائر الأيام، أما في أيام الاحتفاء بماراثون الكلمات فتتغيّر المُواصفات وتظلّ الكلمات، الفنانون يقرأون والجمهور يُنصت لنجمه المُحبّب في صلواته القارئة لمُنجز غيره، لا مُنجزه هو الذي حفظه مُتيّموه عن ظهر حُب.
في تولوز يجتمع أهل الفن، كلّ صنوف الفن، ليقرأوا عُصارة الأدب العالمي بلغتيه الفرانكفونية والأنغلوفونية، ليستمع محبّو الكتاب لصوت كاتب الكتاب من خلال أصوات أخرى مُغايرة وعابرة لصمت الكتب.
أن تنطق الكتب وهي الصامتة، ولن نقول هُنا الجامدة، فأفكارها طائرة وإن وضعت بين دفّتي كتاب، فهذا يعني إبداع دراما أخرى ومسرح آخر وسينما مُغايرة، يكون فيها النجم الفنان خادما أمينا للروائي أو الشاعر الذي لا ينام إلاّ على فكرة ليصحو على أخرى يُودعها صفحات كتابه، أو ديوانه لتتخطّاهما إلى عوالم خارجية، وإلى الآخر مهما كان بعيدا إن آجلا أو عاجلا.
أغبط تولوز في حلّها وترحالها مع الأدب، واستغلالها الفاحش غير الجارح لنجوم الفن في خدمتهم لفن ثامن أو تاسع أو ربّما عاشر، يجمع الكلمات بأعذب الأصوات فتخرج الكلمات مُغنّاة دون نُوت ولا سلم موسيقي، هي أشبه بـ”الأكبيلا”، وما هي بـ”أكابيلا”، تُشعل لهيب السامع لها من عامة الشغوفين بالأدب، أو من خاصة المُهتمين بما يُفرزه جديد الأدب، من مُخرجين سينمائيين أو كُتّاب سيناريوهات الدراما، أو بعض الملحّنين لأجمل الكَلِم الشعريّ، فتغدو الجُمل أناشيد سلام أصولها كلمات من مُبدع لا ينام.
أغبط تولوز، ولا أحسدها لأنّ لتولوز الفرنسية امتدادا لهذه الخدمة الفنيّة للثقافة الأدبية حدودها تونس وفروعها العالم العربي من الماء إلى الماء، فماراثون الكلمات بتولوز له في تونس عمر آخر له من الشموع اليوم خمس مُضاءة وأخرى ستضيء.
لتونس مهرجان اسمه “الكلمات”، مهرجان سنوي كنظيره الفرنسي يجمع أفضل كُتّاب لغة الضاد، أو هكذا يجدّ ويجتهد فاعلوه، فيتعاضد نجوم التلفزيونات والراديوهات ليُسمع الأدب عبر أثير الصوت الإنسانيّ، الموسيقى الأولى في العالم. فاصدحي يا كلمات بأعذب الكلمات، ولترسم العدسات ما خرج من ثنايا الصفحات دراما أو سينما أو لحنا شجيا، فمن الكلمة كان الرسم وكان النحت وكانت السينما واستمرت الدراما، بمعناها الإبداعي لا الاستبدادي طبعا، ومنها، أي الكلمة ثانيا وثالثا وألفا كانت اقرأ.
تولوز وتونس باحتفائهما بالكلمات، من خلال مهرجاني الكلمات، كأنهما يستشرفان اكتساح الأميّات القرائيّة والعاطفيّة المدى الجغرافي المُمتد، فآثرا استشراء الكلمات العاشقة في كلّ الأماكن وبكافة الأصوات حتى تستمر الحياة، بكلّ ما أوتينا من أدب وفن.
صحافي من تونس