الجالية التركية في ألمانيا.. تجذر من دون اندماج

تعد ألمانيا أكبر دولة أوروبية حاضنة للمهاجرين الأتراك الذين شكّلوا رافدا رئيسيا في تشكيل القوة الاقتصادية الألمانية منذ أن هاجروا إلى ألمانيا في مطلع ستينات القرن الماضي، لكن، ورغم السنوات الطويلة التي قضاها الأتراك في ألمانيا لم يتمكّنوا من الانصهار في المجتمع.
الأربعاء 2016/06/29
مواقف تعيق الاندماج

برلين – صوّت البرلمان الألماني، في الثاني من يونيو الجاري، لصالح قرار يصف المذبحة التي ارتكبتها القوات العثمانية بحق الأرمن عام 1915 بالإبادة الجماعية، وانقسم على إثره أتراك ألمانيا بين مؤيدين للبلد الذي يعيشون فيه، وبعضهم يحمل جنسيته، وبين مناصرين لبلدهم الأم، كما وجدوا أنفسهم بين مطرقة العنصرية الألمانية وسندان غضب أردوغان.

واتهم أردوغان نواب البرلمان الألماني، من ذوي الأصول التركية، بأنهم امتداد لمنظمة حزب العمل الكردستاني، المصنفة كـ «منظمة إرهابية» في تركيا، وطالب بإجراء «فحص دم لهؤلاء النواب في المختبر من أجل التحقق من أصولهم التركية».

وتعتبر العلاقات التركية الألمانية تاريخية ومتناغمة، لكنّها شهدت في الفترة الأخيرة توتّرا، بالتزامن مع تصاعد السياسات العدائية لأردوغان، داخل البلاد وخارجها.

وقد سبقت أزمة ملف الأرمن، أزمة أخرى سببها أغنية تسخر من أردوغان بثتها قناة ألمانية. ويأتي قرار البرلمان الألماني الأخير ليعكر، بلا شك، صفو العلاقات التركية الألمانية. لكن يقول خبراء إن الخلافات السياسية سيتم تجاوزها وسيقلص العمق التاريخي للعلاقة بين البلدين من التوتر، فيما ستبقى، الجالية التركية أكثر تأثرا، خاصة بالنظر إلى وضعيتها في المجتمع وفشل أغلب المهاجرين في الاندماج رغم السنوات الطويلة التي قضوها في ألمانيا؛ حيث كشفت دراسة حديثة أن الأتراك هم الأقل نجاحا اقتصاديا من المجموعات المهاجرة الأخرى، فيما يعتبرهم خبراء وسياسيون ألمان أنهم بمثابة «دولة داخل الدولة» في إشارة إلى عددهم الكبير وسيطرتهم على أحياء بأكلمها يعتقد المتجول فيها أنه في تركيا لا في ألمانيا.

العمال الضيوف

توافد مئات الآلاف من الأتراك إلى ألمانيا، في الستينات من القرن الماضي، في إطار برنامج «العمال الضيوف»، الذي ساعد بشكل كبير على الطفرة الاقتصادية الألمانية. وخشية ألا تكون الحياة في تركيا على الشكل المنتظر عند العودة إليها وأنهم لن يتمكنوا من الرجوع إلى ألمانيا قرر الكثير من الأتراك البقاء، وحتى يبقوا على الجانب الآمن، أتوا بعائلاتهم إلى البلد المضيف.

لكن نظرا لحاجتهم إلى مساحة أكبر، شرع الأتراك في الانتقال خارج المبيتات ليسكنوا شققا رخيصة في أحياء قريبة من المصانع هجرها الألمان تدريجيا، وأدى ذلك إلى زيادة الأحياء الخاصة بالمهاجرين مثل ماركسلوه في المدينة الغربية دويسبورغ، وحي نوكولن في برلين.

رغم أن الجيل الثاني لديه مؤهلات أكبر للاندماج لكنه يتمسك بتأكيد ثقافة الذات الخاصة

وترتدي ربات بيوت من أصل تركي الحجاب ويشترين اللحوم وورق العنب من الباعة الأتراك، ويمضي الرجال من كبار السن الوقت في احتساء القهوة والدردشة بالتركية ويقرؤون الصحف التركية بالشوارع الخلفية من برلين.

وذكر تقرير دايتن 2016، الصادر بعنوان التقرير الاجتماعي للجمهورية الفيدرالية الألمانية، أن 36 بالمئة من الأتراك في ألمانيا يعيشون تحت خط الفقر مقارنة بـ25 بالمئة من المهاجرين من البلقان وأوروبا الجنوبية الغربية. كما يبين التقرير أن الأتراك لديهم تحصيل تعليمي أقل من المجموعات المهاجرة الأخرى الموجودة في ألمانيا.

وصدر بالتزامن مع هذا التقرير استطلاع آخر حول الاندماج والدين من وجهة نظر الإثنية التركية في ألمانيا، أجراه قسم الدين والسياسة في جامعة مونستر، وأظهر أن 47 بالمئة ممن شملهم الاستطلاع من المسلمين ذوي الجذور التركية يوافقون على جملة “اتباع التعاليم الإسلامية أهم بالنسبة إلي من قوانين الدولة التي أعيش فيها“.

وكان من الملفت للنظر، حسب خبراء المعهد، أن نسبة الموافقة على هذه الصياغة كانت 57 بالمئة بين الجيل الأول من الأتراك في ألمانيا مقارنة بـ 36 بالمئة بين الجيل الثاني والثالث، مما يعني وجود فارق كبير بين الأجيال في نظرتها إلى أهمية الدين.

وأظهرت نتائج الدراسة أيضا أن أبناء المهاجرين الأتراك وأحفادهم يعيشون بشكل أقل تدينا مقارنة بالجيل الأول. لكن ذلك لا يمنع الشباب الأتراك من وصف أنفسهم بأنهم شديدو التدين حسبما جاء في الدراسة، حيث تبين أن 62 بالمئة من أبناء الجيل الأول من أتراك ألمانيا يصفون أنفسهم بأنهم متدينون جدا، في حين ينظر 72 بالمئة من ذريتهم إلى أنفسهم هذه النظرة وهي نسبة أعلى بشكل واضح. ورأى أستاذ علم اجتماع الدين، ديتليف بولاك، المشرف على الدراسة أنه “ربما تعكس الإجابات على هذا السؤال تأكيد الشباب على الاعتراف بأصلهم الثقافي أكثر مما تعكس التدين المعيش لدى هؤلاء الشباب”.

الجالية الأكبر

أطلق معهد الأبحاث التطبيقية للمستقبل والتنظيم دراسة حول الأكاديميين والطلبة الأتراك في ألمانيا في محاولة لسد الثغرة المعرفية حول الجالية التركية في ألمانيا. ويقول كاموران سيزر، مدير هذه الدراسة، “هناك ثغرة معرفية عميقة بوضع الأتراك في ألمانيا”.

ويضيف “يجري النظر إلى الجالية التركية باعتبارها مجموعة متجانسة، وينسحب هذا على مواضيع مثل الدين والمواقف السياسية ومفهوم الوطن، والاستهلاك”. إلا أنه يرى أن هذه المجموعة غير متجانسة على الإطلاق، فالدراسة التي تناولت الأكاديميين والطلبة على سبيل المثال بينت وجود تباينات شاسعة بين الأتراك الألمان.

الجالية التركية في ألمانيا تعد أكبر جالية أجنبية هناك، إذ يبلغ عدد الأتراك المقيمين في ألمانيا حوالي مليون ونصف المليون تركي

وتعد الجالية التركية في ألمانيا أكبر جالية أجنبية هناك، إذ يبلغ عدد الأتراك المقيمين في ألمانيا حوالي مليون ونصف المليون تركي، بالإضافة إلى حوالي مليون ونصف المليون تركي، حصلوا على الجنسية الألمانية.

وكثيرا ما يلقي الداعون الألمان إلى تعدد الثقافات مسؤولية نقص الاندماج لدى الأتراك على سياسة الاندماج الألمانية الضعيفة، حيث يقول عالم الاقتصاد توماس ستراوبهار إن أغلب الألمان يعتبرون الأتراك ضيوفا وليسوا مواطنين، وهو موقف لا يشجع الأتراك على الاندماج.

ويرد آخرون بأن من يتصرف كغريب يجب ألا يفاجأ إذا عومل على أنه غريب. ويجادل عالم الاجتماع، رود كوبمانس، بأن أحد العوامل الأكثر حسما في الاندماج الناجح يتعلق بالهوة الثقافية بين الضيف والمضيف، فعندما تكون المسافة أكبر يكون الاندماج أصعب.

اليوم لدى سياسة الاندماج عدد أكبر من المساندين ينتمون إلى مختلف الأحزاب الألمانية؛ مثلا كان أرمين لاشت، وهو سياسي في حزب آخن، أحد أول المحافظين دعا إلى معالجة مسألة الهجرة من دون انتماء أيديولوجي، وفي سنة 2005 أصبح وزير الاندماج في ولاية شمال الراين-وستفاليا، وهو أول منصب من نوعه في كامل أنحاء ألمانيا، وفي هذا الصدد يقول لاشت “يؤشر اكتشاف سياسة الاندماج على نهاية نكران جماعي للواقع استمر لعقود من الزمن”.

ويستمد بعض الخبراء شعورا بالتفاؤل من هذا القطاع من المجتمع المختلف تماما، مثلا يعلق أستاذ الدراسات الدينية، راوف سايلان، آماله على مسعود أوزيل، وهو لاعب كرة قدم من أصول تركية لعب في الفريق الوطني الألماني في كأس العالم لكرة القدم وأصبح محبوبا لدى الجماهير. ويقول سايلان إن صورا كهذه “بنفس الأهمية على الأقل في تعزيز الاندماج مع كل أفكارنا الأكاديمية والسياسية مجتمعة”.

12