التراث السعودي: كنوز ثقافية تتطلع لخطة إنقاذ تنفض عنها الغبار

الرياض - إذا كانت قرية رجال المع الحجرية الواقعة في حضن الجبال الجنوبية بالسعودية تمثل واجهة أنيقة للمساعي الجديدة التي تبذلها المملكة العربية السعودية لصون تراثها الثقافي فإن قرية وطن إمسودة تمثل ما يواجه تلك الجهود من صعوبات.
وقد خصصت السعودية ما يقرب من مليار دولار لصيانة التراث في خطة إصلاح جديدة، غير أن الإهمال الذي استمر العشرات من السنين بل والتدمير المتعمد في بعض الحالات يؤكد صعوبة إنقاذ الكنوز الثقافية وارتفاع كلفتها.
وقال عبدالعزيز الغانم ممثل مركز التراث العمراني في عسير التابع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني “توقفنا عن استخدام هذه البيوت القديمة ربما منذ 40 عاما وكل خمس سنوات تحتاج إلى إعادة تأهيلها، وأرجو أن نحصل على المزيد من الأموال، فنحن بحاجة إليها”.
قرية وطن إمسودة تعتبر واحدة من حوالي 4000 قرية قديمة في محافظة عسير الواقعة في جنوب غرب المملكة ويعد مشروع ترميمها لإنقاذ التراث المعماري وتعزيز السياحة أحد ثمانية مشاريع في المنطقة ينفذها مستثمر محلي في إطار البرنامج الجديد الذي تعتمده المملكة في سياق إنشاء هيئة عليا للترفيه.
السعودية خصصت مليار دولار لصيانة التراث غير أن الإهمال يؤكد صعوبة إنقاذ بعض الكنوز
ويبين ارتفاع التكلفة لقرية واحدة صغيرة في بلد هجر سكانه معظم بيوتهم القديمة وانتقلوا إلى بيوت خرسانية حديثة في أعقاب الطفرة النفطية في القرن الماضي، مدى ضآلة ما قد تتمكن السعودية من حمايته من التراث بالاستثمارات المخصصة لذلك.
ورغم أن العاصمة الرياض تنتشر على مساحة واسعة من المباني منخفضة الارتفاعات والطرق السريعة والمراكز التجارية الحديثة فإن المدن الواقعة على ساحل البحر الأحمر والمرتفعات الجنوبية مازالت تحتوي على بعض المباني الرائعة في أحيائها التاريخية القديمة، ولا تزال بعض البيوت الطينية قائمة بحالة جيدة في المناطق الوسطى من البلاد ومنها الدرعية العاصمة التاريخية لأسرة آل سعود والتي تقع خارج الرياض مباشرة، لكن يندر ما تبقى من تراث معماري إذ أن هذه المناطق كان يسكنها في الأصل بدو رحل يعيشون في الخيام.
الاستثمار في التراث
وفي إطار مساعي الرياض لإنهاء اعتماد اقتصادها على النفط فإنها تريد الاستثمار في السياحة وتهدف إلى زيادة إنفاق السعوديين في الداخل بدلا من الإنفاق على الإجازات في الخارج، وكذلك قيام الحجاج القادمين إلى مكة بزيارة مواطن جذب أخرى في مختلف أنحاء البلاد. وقد احتل ترميم المواقع الثقافية مكانة بارزة في رؤية المملكة 2030 التي طرحها الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد كوسيلة لزيادة مشاعر الاعتزاز بالوطن.
ويعد تشجيع زيارة الأماكن الجميلة أو تلك التي لها أهمية خاصة هدفا رئيسيا للاستراتيجية السعودية الجديدة، وتوجد في السعودية بعض المواقع العالمية بعضها يقع في مناطق نائية غير معروفة، فمقابر مدائن صالح النبطية المنحوتة في الصخر والواجهات المزخرفة للبلدة القديمة في جدة وكذلك الزخارف الحجرية العتيقة المستترة بين جلاميد الصخر في الصحارى الشمالية كلها تمثل تراثا فريدا للمملكة.لكن الجهود السابقة لحماية التراث الثقافي لم توجه سوى لبضعة مواقع رئيسية، في حين أن التنمية السريعة التي غذتها الثروة النفطية وعدم الاهتمام بصيانة العمارة التقليدية سمحا بتداعي مواقع أخرى.
|
ومن أسباب هذا النهج ذلك التزمت التقليدي لدى أصحاب المذهب السني ممن يرون في تقديس الأشياء شركا بالله بما في ذلك المباني المرتبطة ببزوغ الإسلام. ويكشف ما يحدث اليوم من تركيز على التراث الوطني بل وعلى التراث المحلي قبل نزول الإسلام عن تخفيـف للقيود الدينية في جانب من الجوانب.
ويهبط الطريق من وطن إمسوده إلى رجال المع على جبل سودة في إلتواءات حادة تختفي فيه شجيرات العرعر التي تنمو في المدرجات العليا حيث الهواء العليل ليحل محلها الحر والرطوبة في السهل الساحلي على البحر الأحمر.
وفي حين تمنح هذه البيئة المبهرة في واد جبلي وارتفاع بيوتها الحجرية المزخرفة بأشكال مختلفة من حجر الكوارتز الوادي مزايا ليست لدى قرى أخرى قديمة فإن الألمعي يعتقد أنه من الممكن محاكاة هذا النموذج.
ويتطلع الألمعي لترميم سلسلة من القرى عبر جبال عسير تعكس كل منها عنصرا مختلفا من التراث المعماري غير العادي للمنطقة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة تدفق السياح المحليين الذين يجتذبهم اعتدال حالة الجو في فصل الصيف.
لكن المال يمثل مشكلة كبرى، والألمعي الذي عاش في بيت قديم في رجال المع حتى سن السادسة عشرة مستثمر مستقل ونفذت مشروعاته بمشاركة وكالات حكومية قدمت بعض المال والمباركة الرسمية. ومع ذلك فلم تستثمر الحكومة حتى الآن شيئا يذكر في التراث المحلي الذي لا تملك له حتى سجلا خاصا للمعمار التقليدي في عسير أو المحافظات المجاورة حيث توجد بيوت متداعية في أغلب المدن والقرى.
وحتى في وسط أبها عاصمة محافظة عسير يحتفي الناس بالأعراف المحلية في بعض الأشكال التقليدية التي تضاف إلى المباني الخرسانية، في حين أن البيوت الطينية الفعلية تتدهور وتتحول إلى أطلال.
الربع الخالي
ويتكرر هذا النمط في مختلف أنحاء البلاد، ففي وادي نجران الخصيب الذي يمتد بين تلال جافة شديدة الانحدار ليصل إلى صحراء الربع الخالي توجد في ما بين الحقول مجموعات من البيوت العالية من الطوب اللبن ذات عوارض أفقية مميزة.
ومع ذلك يبدو من المرجح أن يتركز الإنفاق على السياحة والتراث الوارد في خطط الإصلاح الجديدة على المشروعات الكبرى في أغلبه. ومن المقرر توجيه استثمارات كبيرة قرب مدائن صالح وبعض الجزر المطلة على البحر الأحمر والغنية بالحياة البحرية.
ومع ذلك فقد حصل التراث السعودي على دفعة عام 2014 عندما سجلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) جدة القديمة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي. وتطرح جدة القديمة بعضا من تحديات الترميم نفسها لقرى عسير حيث أغلب البيوت مثلما هو الحال في جدة مملوكة ملكية خاصة وبعضها في حالة سيئة.
وقال سامي نوار رئيس بلدية جدة القديمة “عندما كنت صغيرا لم نعرف أهمية هذه المباني، وفي تلك الأيام كنا نهلل عندما يهدمونها لمد طريق جديد أما الآن فقد تمكنا من إنقاذ فن العمارة”، مضيفا أن الوقت قد حان الآن لإعادة التفكير في التراث والشخصية السعودية.
|