الدراما مدخل رئيسي في السياسة الخارجية التركية

أنقرة - تسجّل الدراما العربية الرمضانية للعام 2016 إنجاز أول مسلسل عربي- تركي، المميز فيه لا يأتي فقط من أنه عمل يضم مجموعة من الممثلين العرب والأتراك وأن مخرجه تركي، بل أساسا من كونه سيعرض على فضائيات تركية، في خطوة وإن كانت صغيرة وغير واضحة النجاح بعد، إلا أنها تعتبر وفق المتابعين والمشاهدين، خطوة ذكية وشجاعة من شركة الإنتاج السعودية في هذا الوقت بالذات لتعكس البوصلة وتصبح الدراما العربية تعرض في قلب البيت التركي مثلما نجحت الدراما التركية، قبل سنوات قليلة، في أن تغزو الشاشات العربية محدثة تأثيرات فنية واجتماعية وسياسية كبيرة.
وكشف حسن عسيري منتج المسلسل، الذي يحمل اسم البيت الكبير، عن توقيعه عقودا حصرية طويلة الأمد مع مجموعة من القنوات التركية لتوفير المحتوى العربي، منوّها في تصريحات صحافية إلى أهميّة دخول السوق التركية. ويجري بث العمل على قناة تي آر تي، التركية الناطقة بالعربية، كما سيتم عرضه بعد شهر رمضان من خلال قنوات ستار تي في، وقناة كنال دي التركية.
لا شكّ أن التجربة تبدو في فكرتها وتصوّرها العام خطوة هامة، خاصة إذا ما تم تأطيرها ضمن السياق العام الذي باتت تلعبه الدراما كجزء من سياسة القوة الناعمة التي تساعد الدول على التغلغل بصمت داخل المجتمعات، وتحقيق ما تعجز عنه السياسة والاستثمارات، ولنا في المثال التركي خير دليل.
قبل سنوات قليلة، لم يكن المشاهد العربي يعرف من الدراما الأجنبية غير بضع مسلسلات مكسيكية وأرجنتينية، لم تلق نجاحا كبيرا نظرا لطبيعة المجتمعات المصدّرة لتلك المسلسلات، لكن انقلابا كبيرا حدث في أواخر سنة 2008، بعرض قناة أم بي سي مسلسلا تركيا مدبلجا باللهجة السورية، حمل اسم نور.
المفارقة الكبرى تمثلت في أن المسلسل لم ينجح في بلاده، لكنّه حقّق أرقاما قياسية عند عرضه على المستوى العربي، لدرجة أنه ساهم في إنعاش الاقتصاد التركي، وخصوصا قطاع السياحة، الذي كان يمّر بأزمة في ذلك الوقت. وقد كشفت التقارير، حينها، أن عدد السياح العرب الذين سجّلوا خلال الفصل الأول من 2009 بلغ خمسمئة ألف سائح عربي.
وبعد النجاح الذي حققته الدراما التركية بدأ الفنانون الأتراك يغزون التلفزيونات العربية عن طريق الإعلانات. فقدم الممثل التركي كيفانج تاتيتوج أو مهند بطل مسلسل نور إعلانا لإحدى شركات السيراميك.
تسييس الدراما
تلقّف رجب طيب أردوغان، الذي كان حينها رئيسا للوزراء، ويضع تفاصيل وصوله إلى رئاسة تركيا ويبحث عن منفذ لاستعادة الحضور العثماني في المنطقة العربية، هذا النجاح وعمل على استثماره. ويشير الباحث محمد زيادرة في دراسة حول تأثيرات الدراما التركية على المشاهد العربي إلى أن تركيا نجحت في العودة إلى المنطقة وإعادة بناء علاقتها الثقافية والتواصلية مع المجتمعــــات العربيـة.
التيار المحافظ في الدراما التركية الذي ترعاه وتدعمه القيادة التركية يمثل زحفا ناعما لأسلمة الحياة في تركيا
وركّزت هذه القناة على تقديم برامج حول تاريخ العثمانيين ودراما السلاطين، التي نجحت في استقطاب المشاهد العربي والتركي الأتاتوركي أيضا.
تشير الكاتبة الأردنية إحسان الفقيه إلى “أن التيار المحافظ في الدراما التركية الذي ترعاه وتدعمه القيادة التركية يمثل زحفا ناعما لأسلمة الحياة في تركيا بذكاء، وتقليم أظافر العلمانية ورفع يدها عن مجالات الحياة التركية دون صدام”.
وأضافت الفقيه أنه “بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، كان من الطبيعي أن تنقلب الصورة، حيث اتجهت قياداته لإعادة ربط الأتراك بتراثهم العثماني. ودخلت القيادة التركية الجديدة في معارك فكرية ومنهجية عدة مع الأتاتوركيين، كانت منها معركة الحجاب وإقرار حق المرأة في ارتدائه باعتباره مظهرا من مظاهر الحرية الشخصية التي تكفلها الدولة المدنية”.
ومن بين هذه الأعمال مسلسل “رغم الأحزان”، الذي يتحدث عن قضية منع الحجاب في الجامعات التركية وعرضته عدة قنوات عربية، من بينها فضائية تونسية، وقد كان لافتا التأثير الذي تركه المسلسل في عدد كبير من التونسيين في وقت يشهد فيه المجتمع مظاهر دخيلة عليه، ظهرت مع ظهور جماعات الإسلام السياسي، وصعود حركة النهضة المدعومة من حزب العدالة والتنمية التركي والمتأثرة بنموذجه.
وفي الداخل التركي أضحت الدراما جزءا من الصراع بين الحكومة والمعارضة، الذي تجسد في التنافس بين مسلسل السلطانة كوسيم، الذي يدعمه التيار المعارض لأردوغان، وهو الجزء الخامس من سلسلة القرن العظيم، ومنتجه مجموعة أضن دوغان الإعلامية ذات التوجه العلماني الرافض للدولة العثمانية، ومسلسل النهوض – أرطغرل، الذي يتوافق مع السياسة الحاكمة، وقد لاقى نجاحا كبيرا.
ويتناول قصة أرطغرل بن سليمان شاه، والد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية. وقد تم تسويق العمل إلى حوالي 60 دولة عربية وأوروبية.
|
اليونان وأميركا اللاتينية
جدل الدراما التركية تجاوز الحدود العربية ليصل إلى اليونان، التي شهدت انتقادات كبيرة بسبب عرض قنواتها الخاصة مسلسلات تركية. ووصلت هذه السياسة إلى حدود أميركا اللاتينية.
ويشير ماكيل كابلان في تقرير لمجلة انترناشيونال بيزنس تايمز إلى أنه في الأشهر الأخيرة، تم عرض ما يزيد عن اثنى عشر عملا تركيا في بلدان أميركا الوسطى والجنوبية. وقال أسلي تونك، أستاذ الدراسات الإعلامية في جامعة بلجي في إسطنبول، إن “الدراما التركية أصبحت ظاهرة جديدة. بدأت العروض في الجمهوريات التركية، ثم في منطقة البلقان، ثم منطقة الشرق الأوسط، والآن أميركا اللاتينية. إنها تنتشر في جميع أنحاء العالم”.
قبل عقد من الزمان، كانت الصادرات التركية من المسلسلات التلفزيونية تكسب حوالي مليون دولار سنويا، واليوم، تجلب تلك الصادرات حوالي 350 مليون دولار على الأقل، ما يجعلها واحدة من أكبر الدول المصدرة في العالم للمسلسلات التلفزيونية. وتفيد الأنباء بأن عائدات التصدير زادت بنسبة 25 في المئة عن العام الماضي وحده، وفق صحيفة صباح التركية الموالية للحكومة.
وقالت فاهري سانتورك، رئيسة شعبة العلاقات العامة في وكالة غلوبل أجنسي للأنباء، وموزع المسلسلات التركية الأكثر شعبية، “تمثل كل من منطقة الشرق الأوسط وأوروبا الوسطى والشرقية، وأميركا اللاتينية مجالا لأكبر عدد من صادرات الدراما التركية”.
خلال زيارته لعدد من دول أميركا الجنوبية مؤخّرا، أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن قبول المسلسلات التركية هو مثال على العلاقات القوية التي تجمع منطقتين بعيدتين من العالم. وعلى مدى عقود، كان الأتراك يشاهدون المسلسلات المستوردة. في هذه الأيام، تم تكييف المسلسلات التركية مع متطلبات تلفزيونات في أميركا اللاتينية وقبل ذلك وفق متطلبات السوق العربية، فهل سينجح العرب أيضا في أن يكونوا على مستوى التحدّي وتغزو الدراما العربية السوق التركية كخطوة نحو السوق العالمية؟.