تجهيز تركيا لزعيم نهم.. قطع رأس كولن ثم الاحتفال بتعديل الدستور

لندن - بينما كانت عناصر الشرطة تركل متظاهرين سقطوا على الأرض وسط دخان كثيف وتعالي أصوات الصياح بعد استهداف تظاهراتهم وسط ميدان تقسيم في مدينة إسطنبول التركية، كان محمد، ابن الرئيس عبدالله غول، يتجه بصحبة عشرة من أصدقائه إلى القصر الرئاسي، لينقلوا لغول احتجاجهم على عنف الشرطة ضد المتظاهرين.
اندلعت التظاهرات أواخر مايو 2013 احتجاجا على تحويل منتزه غيزي إلى مركز تجاري واتسعت لاحقا كي تشمل مدنا تركية عدة، وفي اليوم الذي توقفت فيه التظاهرات، كانت تركيا تستعد لدخول حقبة جديدة من حكم فردي استبدادي ستدفع ثمنه قريبا.
فبعد ثلاث سنوات كان رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو يدرك أن قطار دوره التاريخي في بناء تركيا المعاصرة قد وصل إلى آخر محطاته، عندما كان موكبه يعبر البوابة الرئيسية للقصر الأبيض، بعد لقاء عاصف جمعه مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
ورغم اختياره الانسحاب في هدوء بطلب من أردوغان، قاوم داود أوغلو كثيرا نعته بواسطة صحافيين أو سياسيين معارضين بـ”دمية أردوغان”، إذ كان يحاول في خطبه الحذرة إماطة اللثام عن خلاف احتدم بينه وبين الرئيس حول تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، يتم بموجبه منح أردوغان صلاحيات مطلقة.
امتد الخلاف، الذي رسم خندقا عميقا بين الصديقين، إلى صديق ثالث يرقب المشهد من بعيد، لكنه ما زال يملك أدوات رسم ملامح جزء منه. لم يكن هذا الصديق سوى الداعية المثير للجدل فتح الله كولن.
في اليوم التالي لمغادرة داود أوغلو منصبه، كان قرار إعلان حركة خدمة التي يديرها كولن “منظمة إرهابية” على مكتب أردوغان ينتظر توقيعه.
واليوم يجد أردوغان الطريق ممهدة أمامه لبدء عصر حكم دون عراقيل داخلية تذكر، بعدما تخلص من أقرب حلفائه داخل حزب العدالة والتنمية، وحجم نفوذ الأكراد في البرلمان، وعين رئيس وزراء يحمل رؤى متطابقة مع استراتيجيته، وبدأ معركة لا نهائية مع حليفه السابق وجماعته مترامية الأطراف.
فادي حكورة الباحث والمتخصص في الشؤون التركية يرى أن تركيا لا تنتظر تعديل الدستور حتى تدخل مرحلة السلطوية وحكم الفرد. هي تعيش هذه المرحلة بالفعل
وانضم داود أوغلو إلى الرئيس السابق عبدالله غول ونائب رئيس الوزراء بولينت أرينج، اللذين أسسا الحزب مع أردوغان قبل أكثر من عقد، في جانب “المعارضة الصامتة”، التي لا تتردد أحيانا في التعبير عن الامتعاض.
وفي مناسبة اجتماعية احتشد فيها المئات من أنصار الحزب الحاكم، قال أرينج قبل شهرين “إذا كان الناس الذين قاتلنا معهم، ضد الحظر المفروض على الحجاب، قد تغيروا الآن وأصبحوا هم الذين يفرضون الحظر بسبب نشوة السلطة، فسوف نرى هذا الهجوم على الحرية كأساس للنضال من أجل الحرية”.
وتشير استقالة داود أوغلو وانتقادات أرينج إلى مدى توغل أردوغان في السلطوية، التي قد تتسبب في تشكل حركة معارضة أوسع نطاقا داخل أروقة الحزب.
كما ستصعد حدة المعارضة من قبل الأحزاب القوية والأكراد، وداعمين لجماعة “خدمة” يتحكمون بمؤسسات حساسة في الدولة.
كولن.. الحليف اللدود
يتهم أردوغان حليفه السابق ببناء “دولة موازية” من خلال شبكة تجمع أنصاره في الشرطة والقضاء والإعلام والأعمال والجيش، واستخدامها في محاولة الإطاحة به. وينفي كولن هذه الاتهامات.
وانحسرت مخاوف أردوغان طوال الوقت في الخشية من قدرة كل من حلفائه وخصومه على الوصول إلى الناس الذين استحوذ الرئيس التركي على فكرهم، منذ أن كان رئيسا للوزراء. وباستثناء الأكراد المتوجسين من أردوغان، تمكنت شبكة كولن من التوغل في صفوف مؤيدي الرئيس عبر سلسلة واسعة من المدارس والمشروعات.
عزز هذا التوغل شعور أردوغان بالخطر، وهو ما جعله يحول القضاء على حركة “خدمة” إلى أولوية قصوى في الداخل والخارج.
|
وقال مسؤول تركي رفيع لرويترز قبل سفر أردوغان إلى أوغندا، يوم الثلاثاء، “هذه الشبكة تنظم نفسها بسرعة في الدول التي تذهب إليها باستغلال اسم تركيا وهيبتها ونتيجة لذلك تتاح لها فرص”.
وقال مصطفى اللباد، الخبير في الشؤون التركية، إن “أردوغان أمام خصم ليس سهلا. هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها تصدير الاتهامات التركية الداخلية إلى الخارج”.
ويعيش كولن في ولاية بنسلفانيا الأميركية التي يتخذ منها منفى اختياريا. لكن مراقبين يقولون إن أتباعه ما زالوا قادرين على حشد ما بين 400 و500 ألف صوت انتخابي داخل تركيا.
وقال اللباد لـ“العرب” إن “أردوغان كان يقول بعد تحقيق الانتصار في أي انتخابات: نشكر بنسلفانيا. الآن نرى تصدير الصراع إلى الخارج لأول مرة منذ عام 1923”.
وقد يعرض أردوغان على المسؤولين في كينيا وأوغندا رفع حجم التبادل التجاري، الذي وصل إلى 12.5 مليار دولار العام الماضي وتقديم حزمة مساعدات اقتصادية مقابل خنق الحركة.
وقال إكرام توفان أيتاف أحد المقربين من كولن “مسؤولو الحكومات الأفريقية يرسلون أولادهم إلى تلك المدارس… وهم من الذكاء بحيث يسمحون بالتالي لهذه المدارس بالاستمرار”.
لكن المعركة تأخذ في الداخل منحى آخر. ويقول مساعدون سابقون لأردوغان إنه شعر بتحول “خدمة” من شبكة أعمال ونفوذ، إلى قوة أخذت في رسم ملامح المجتمع التركي، ضمن تغيير أوسع، إذ دخلت القيادات ذات الخلفية الدينية والعقلية المؤمنة بانفتاح السوق تدريجيا مرحلة الكهولة.
وطالما عول أردوغان على الحركة كثيرا في تسويق صورة تركيا في الخارج خلال مرحلة الصعود الاقتصادي الذي شهدته البلاد في سنوات العقد الماضي.
ويقول كريم بالتشي، الكاتب السابق في صحيفة زمان، التي كانت تتبع الحركة قبل أن تداهمها قوات الأمن ويعين أردوغان على رأسها قيادات موالية له، “اعتادت حركة خدمة على سد الثغور”.
وأضاف الكاتب، الذي انضم إلى صفوف الحركة منذ أن غادر قريته من أجل الالتحاق بالمدرسة الثانوية، “أعمل في مؤسسة خدمة. من الناحية الاقتصادية أيضا تم منحي منحة دراسية بواسطة المؤسسة، لكن الشيء الحقيقي الذي أجبرني على البقاء كان العمل.. تم تكليفي بمهام واضحة”.
كانت الحركة حينها تعمل بحرية مطلقة، وتحظى أيضا بدعم مباشر من أردوغان شخصيا.
أردوغان قد يعرض على المسؤولين في كينيا وأوغندا رفع حجم التبادل التجاري، وتقديم حزمة مساعدات اقتصادية مقابل خنق الحركة
وفي مارس 2011، اقتحمت الشرطة دار نشر في إسطنبول، وصادرت جميع نسخ كتاب “جيش الإمام” الذي كان يحقق في مدى توغل جماعة كولن بين صفوف الشرطة.
واعتقل مؤلف الكتاب والصحافي، أحمد سيك، بعد ذلك ببضعة أسابيع.
واعتقل الهان سيهانير، القاضي الذي حقق في فروع محلية تابعة لحركة كولن، وحنفي أوتشي، قائد الشرطة السابق الذي ألف كتابا عن الحركة، ونديم سينير، الصحافي الذي أصدر بحثا مشتركا انتقد فيه سعي أعضاء حركة “خدمة” للتأثير على الشباب والهيمنة على حركة التجارة في تركيا.
وفي سيارة الشرطة أثناء ترحيله، قال أحمد سيك للصحافيين الذين كانوا يلاحقونه “أي شخص يقترب منه (كولن) يحترق”. وحكم على سيك بعد ذلك بالسجن بتهمة التعاون مع منظمات إرهابية.
واليوم تحول أنصار الحركة، التي كان يتهم منتقدوها بالتعامل مع منظمات إرهابية، بدورهم إلى متهمين بالإنتماء إلى “منظمة إرهابية” تمتلك شبكة علاقات دولية واسعة (خاصة في الولايات المتحدة وأفريقيا)، وتدير مشاريع ضخمة داخل تركيا وخارجها.
وقال مصطفى اللباد لـ”العرب”، “لا أعتقد أن مثل هذا الصراع قابل لأن يحل بالطرق البوليسية، نحن نتحدث عن المئات من الاتفاقيات والعشرات من المليارات’.
من البرلمان إلى القصر
وتخشى الحركة على مستقبلها من تداعيات صراع بات محسوما على نقل كافة الصلاحيات في تركيا إلى أردوغان، عبر تعديل الدستور والتحول من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي، سيضفي شرعية على تحركاته الانتقامية.
ويقول منتقدو الحركة إنها لن تشكل أي عائق أمام التحول إلى النظام الرئاسي، إذ يحتاج أردوغان، الذي يستحوذ حزبه على 317 صوتا، إلى 14 صوتا فقط لتمرير التعديلات الدستورية، بعد خصم صوت إسماعيل كهرمان رئيس البرلمان. ويعول أردوغان كثيرا على انقسامات تعصف بحزب الحركة القومية لكسب أصوات أعضائه، ويتعثر إقناع دولت بهتشيلي، زعيم الحزب، بالتحالف مع حزب العدالة والتنمية، لكن المناصرين لطغرل توركيش يعلنون دعمهم العلني لتركيز الصلاحيات في يد أردوغان.
أردوغان يحاول الاصطياد في ماء الانقسامات العكر داخل حزب الحركة القومية من أجل ضمان أغلبية تمكنه من تحويل البلاد إلى النظام الرئاسي
وطغرل توركيش هو نجل آلب أرسلان توركيش، مؤسس حزب الحركة القومية. وانشق توركيش الابن عن الحزب، بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في نوفمبر 2015، وانضم لاحقا إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي حصل حينئذ على ما يقارب 49.5 بالمئة من الأصوات.
وفوجئ الجميع بتعيين طغرل توركيش نائبا لرئيس الوزراء في حكومة بن علي يلدريم الذي خلف داود أوغلو في رئاسة الحكومة.
وقال فادي حكورة الباحث المتخصص في الشؤون التركية بمركز تشاثام هاوس في لندن لـ”العرب” إن “أردوغان يحاول الاصطياد في ماء الانقسامات العكر داخل حزب الحركة القومية من أجل ضمان أغلبية تمكنه من تحويل البلاد إلى النظام الرئاسي”.
ويعول أردوغان على صراع أكثر عنفا على الأرض وداخل البرلمان مع الأكراد المناصرين لحزب الشعوب الديمقراطي بزعامة المحامي الشاب صلاح الدين دمرداش. وتبنى البرلمان التركي في 20 مايو قانونا يسمح برفع الحصانة عن أعضاء أكراد بهدف ملاحقتهم قضائيا.
وصوت 376 من أصل 550 نائبا لصالح القانون الذي طرحه حزب العدالة والتنمية الحاكم. ويكفي هذا العدد لإجراء تعديلات على الدستور تمرر النظام الرئاسي دون إجراء استفتاء شعبي. وسيؤدي القانون إلى رفع الحصانة البرلمانية عن 138 من نوابه.
ويسمح الدستور، علاوة على ذلك، بإجراء انتخابات جديدة على المقاعد الشاغرة إذا ما بلغت نسبتها 5 بالمئة أو أكثر من إجمالي مقاعد البرلمان، وهو ما يسمح في المستقبل باستحواذ العدالة والتنمية على مقاعد النواب الأكراد.
ويتخوف الأكراد، الذين يدعم الكثير منهم حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا أهلية ضد الجيش في محافظات جنوب تركيا، من أن يكونوا أول الضحايا لمرحلة “الانتقام” ما بعد تعديل الدستور.
ويقول حكورة لـ”العرب” إن “تركيا لا تنتظر تعديل الدستور حتى تدخل مرحلة السلطوية وحكم الفرد. هي تعيش هذه المرحلة بالفعل، حيث تتركز جميع قرارات الحكم في يد أردوغان”.
وأضاف “تعديل الدستور سيضيف فقط شرعية دستورية وقانونية على ممارساته”.
ولا يبدو يلدريم مستعدا لمعارضة أي سياسات ينتهجها أردوغان، على عكس داود أوغلو الذي كان أقل من عملوا مع أردوغان مقاومة لكاريزمته الطاغية، ومع ذلك لم يكن قادرا على تحمل الاستمرار في العمل معه.
وقال مصدر دبلوماسي رفيع في منطقة الشرق الأوسط لـ”العرب” في اتصال هاتفي “أصبحت كل الأمور مهيئة أمام أردوغان للعمل مع حكومة تتكون من دمى. آمل ألا يعصف رجال كولن في أجهزة مكافحة الفساد بهذه الحكومة أيضا، ومن ثم يفسدون الطبخة على الزعيم النهم”.
|