نجاح دون امتحانات
بدأت، إذن، فترة امتحانات آخر السنة، في مناطق كثيرة من العالم، غير أن الفرق بين الامتحان هنا، في هولندا حيث أعيش، وفي أماكن أخرى، وتحديدا في بلداننا العربية، أننا، كأولياء، لا نكاد نشعر به. فلا شيء يتغير في حياتنا أو حياة أبنائنا. لا أكوام كتب تتراكم على الطاولة والكراسي، والممرات والكنبة، ولا غرف مغلقة ومعزولة ينحشر فيها الأطفال لا يغادرونها إلا للأكل أو الشرب، ولا إلحاح من الأولياء على أبنائهم، ولا عراك ومراقبة وشد وجذب، ولا أرق ولا سهر ولا أي شيء من هذا على الإطلاق. كل ما في الأمر أن المدرسة ترسل رسالة إلكترونية إلى الأولياء تخبرهم فيها بأن الامتحان سيكون من كذا إلى كذا، وهو إجراء وقائي حتى لا يتغيب الأطفال عن المدرسة إلا لأسباب قاهرة.
فترة الامتحان هنا، فترة عادية كباقي فترات السنة. لا يطلب فيها من الطفل أن يقوم بواجبات إضافية، ولا يرهق كاهله بأعباء ودروس ومذاكرة وسهر. الأكثر من ذلك، هو أنهم يحاولون قدر الإمكان أن يجنبوا الطفل القلق والارتباك المرافقين لفترة الامتحانات، عبر الإصرار على جعلها تبدو فترة عادية كباقي فترات السنة، وغالبا ما يقوم الطفل بامتحان واحد في اليوم تتخلله فقرات عادية من اللعب والأنشطة المدرسية العادية التي يأخذها في سائر الأيام وفق الجدول المعتاد، حتى لا يتغير الكثير في روتينه اليومي.
منذ سنوات قليلة نوقش، على مستوى واسع في هولندا، موضوع امتحان آخر السنة، ومدى أهميته، وإمكانية الاستغناء عنه نهائيا، ولأن الجدل لم يحسم بشكل نهائي فقد ترك الأمر للمدارس، تختار منهجها بنفسها، وتقرر داخليا إذا ما كانت ستجري الامتحان الختامي أم لا.
معارضو الامتحان الختامي يعتقدون أن أداء الطفل على مدى سنة كاملة، كاف ليحدد نجاحه من فشله، وأن تقييم مستوى الطفل لا يجب أن يترك لامتحان وحيد ومعزول تتحكم فيه ظروف نفسية وموضوعية كثيرة، وإنما أن يكون على امتداد سنة كاملة من المراقبة ومتابعة آداء الطفل وسلوكه وتطوره. في النهاية تعطي المعلمة ما يسمى بـ “نصيحة”، مبنية على تقاريرها خلال السنة بأكلمها، تخوله للنجاح أو الفشل.
أما مؤيدوه فيعتقدون على العكس من ذلك، أن ترك مصير طفل في يد معلمة "تحب وتكره" قد ينتابه شيء من اللاموضوعية، وتتحكم به ميولات معينة، وهي طبيعة البشر في كل وقت وحين، ولذا وجب تقنينها بمقاييس واختبارات لا تخضع للعاطفة أو الخطأ الإنساني.
وأيا كانت الحجج، سواء مع أو ضد، فإن الامتحان، في هذه الثقافة، يظل عنصرا ثانويا، ورمزيا أكثر منه اختبارا مصيريا “يكرم فيه المرء أو يهان”، فلا النجاح كرامة، ولا الفشل إهانة، بل إن بعض العائلات وبعد التشاور مع المدرسة تطلب بنفسها ترسيب ابنها لتجنبه مصيرا عسيرا أو جهدا لا طاقة له به. فالغاية ليست النجاح، وإنما العلم، والقيمة ليست في علو الدرجات وإنما في تكوين الشخصية وتثقيفها وتعليمها، وتزويدها بما تحتاجه من معارف ومهارات تحتاجها في المستقبل.
مثال على تميز التعلم وقيمته ما يحدث في اختتام الدروس الابتدائية قبل الانتقال إلى التعليم الثانوي: في الثلث الأخير من الفصل الأخير من التعليم الابتدائي تعطي المعلمة نصيحتها حول نوع التعليم الثانوي الذي تتوقعه للطفل، ثم يجري الأطفال في آخر السنة امتحانا على مستوى وطني. من أحرز في الامتحان نتيجة تخوله لتعليم ثانوي أعلى من نصيحة المعلمة فالاحتكام يكون للامتحان، ومن أحرز نتيجة أقل من نصيحة المعلمة فالاحتكام في هذه الحالة لنصيحة المعلمة. في النهاية الطفل هو الرابح، في كل الأحوال.
كاتبة من تونس مقيمة في هولندا