ميلود الشعبي ملياردير مغربي مزج السياسة بالاقتصاد والحس الإنساني

السبت 2016/05/14
ميلود الشعبي راعي غنم يفر من أبيه إلى الثروة بعد أن ضيع خروفا من قطيعه

الرباط- توفي قبل أسابيع الملياردير المغربي ميلود الشعبي، الثري الذي ملك القصور الفخمة والمؤسسات الاقتصادية الناجحة الكبرى، في البلاد وخارجها، متحدياً الفقر والجوع، بعد أن أرخى يوما رجليه للريح فارا من والده خوفا من عقوبته لإضاعته خروفاً من قطيع الغنم الذي كان الراعي ميلود مكلفا برعايته.

قرر الشاب الهروب وعدم العودة إلى قرية الشعيبة بمنطقة الشياظمة التي عاصمة إقليمها مدينة الصويرة، حتى أضحى من أغنى رجال المال والأعمال المغاربة، والذي تقدر ثروته ببلايين الدراهم ومليارات الدولارات. ترى كيف كانت بدايات الرجل الذي عاش عمق الفقر وارتقى حتى قمة الغنى، إلى أن انتهى إلى حب البساطة والتواضع؟

موكادور تدفع شراع الشعبي

كانت مدينة موكادور المغربية المعروفة بالصويرة، شمال مدينة أكادير، تعانق ريحها الشرقية القوية التي تُشد لميقاتها الرحال، ويحضر لإطلاق أشرعة زوارقهم لها أبطال رياضات ركوب الأمواج، خصوصا منها رياضة السورف التي تغوي الشباب.

كنا ننتظر وسط قصر بلدية كناوة، وصول الحاج ميلود الشعبي رئيسها، للظفر منه بتصريح حول رأيه في الانتخابات، وكذا البحث معه في أسباب خلافه مع محمد السفار، محافظ الإقليم آنذاك، وكذلك حول وزارة الداخلية في عهد الوزير القوي إدريس البصري، التي كانت قادرة على فعل أيّ شيء لتثبيت الموالين لوزير ما كان يعرف بـ”أم الوزارات”، كما كانت صحافة المعارضة تنعتها في التسعينات من القرن الماضي.

في السابعة والنصف من مساء ذلك الخميس، وصل رئيس المجلس البلدي إلى قصر البلدية قادما من الدار البيضاء عبر مطار مراكش، وبعد استقباله لمجموعة من فقهاء المدارس العتيقة التي تقوم بتحفيظ القرآن في الإقليم، والتي كان الشعبي قد هرب من إحداها بعد أن ضيع خروفاً من قطيع والده، فغدا اليوم يكفّر عن تهاونه بتخصيصه لتلك المدارس، التي تعرف في المغرب بـ”العتيقة”، منحاً وإعانات مالية وعينية كل شهر.

حكمته وكفاحه مكناه من تشييد مجموعته الاقتصادية الكبيرة التي فاقت شهرتها الحدود المغربية، عن طريق الشركة الأم "يينا"، ومعناها بالأمازيغية أمي، حتى وصل عدد شركاته إلى أكثر من 40 مؤسسة، كلها شركات مواطنة تشغل أكثر من 20.000 عامل

خرج الفقهاء من مكتب الرئيس وعلامات السعادة بحصولهم على شيء ما مفرح بادية على وجوههم. بعدها عاد إليّ الشاوش يطلبني للدخول عند “سعادة السي الشعبي”، وما كدت أطل على مكتبه برأسي حتى وجدته يحاول التخلص من ربطة عنقه الحريرية، متأففا منها، متهما إياها بمحاولة شنقه باسم الموضة والحضارة.

قام الشعبي من مكتبه الإداري ودعاني إلى الجلوس على أريكة الضيوف، لكن ما كدنا نجلس حتى انقطع التيار الكهربائي وساد الظلام المكتب وكل البلدية، فزاد ضحكنا حتى دخل الشاوش الذي سيفتح لنا الطريق بشعلة ولاعة سجائره ليوصلنا إلى سيارة المرسيدس الفارهة الرابضة بمرآب البلدية حيث دعاني إلى الجلوس إلى جانبه بمقعدها الخلفي مستعينين بضوئها الداخلي، ومكثنا نتحدث ونسجل حتى عاد التيار الكهربائي بعد حوالي ساعة، وكنا قد أنهينا خلالها المقابلة، وكانت الساعة تشير إلى حوالي العاشرة ليلا، فقرر الرئيس إيصالي إلى دار الصويري حيث كانت إقامتي.

لم يبخل عليّ الحاج ميلود في تلك الليلة بمعلومة علمها، أو وصلت إلى علمه، استنتجها بمقارنة عقله وحسه، حول موضوع الانتخابات، إلا وباح لي بسرّها.

كان صريحا بلهجته المغربية الدارجة التي بها مسحة بحّ زادتها نبرة صوتية خاصة. فحظ الشعبي من التعليم قليل، لكن تفكيره عميق وتجربة في الحياة كبيرة. كان يقول “لقد كانت أسرتي تعيش فقر الصومال، حتى إن أخي توفّي متأثرا من الجوع. ماتت البهائم ومرضت. ثماني سنوات متتالية من الجفاف والعطش عشناها. لقد كنا نموت من الجوع والعطش”.

لكن الشعبي وفي العام 2004 اختارته مجلة “ماروك إيبدو” رجل السنة. وفي العام 2011 حلّ في المركز 49 ضمن قائمة أغنى 50 عربيا، لما حققته شركاته من أرباح في جميع الدول التي يستثمر فيها الشعبي من قبيل ليبيا وتونس ومصر والإمارات العربية المتحدة والعديد من دول الساحل الأفريقي.

كان بين الفينة والأخرى ينصحني بقوله “لا تنشروا هذا الآن، فوزارة البصري لها مخالب جارحة”، واستمرّ ينصحني حتى خلت نفسي أجلس إلى والدي الذي يخاف عليّ، فزادت المحبة، وزاد الاحترام. كان ينصح الصحافة والصحافيين في بلده المغرب، بألا يتسرّعوا في إصدار الأحكام، لا عليه هو، ولا على خصومه السياسيين. مستدلا بالمثل القائل “يوم لك ويوم عليك”، ناصحا الصحافيين، بالحكمة والتروي.

عمله السياسي الذي اعتزله مؤخراً لم يجعل الشعبي يفرط في المجتمع المدني بكل أصنافه، بل كان يمده بالدعم والمساعدات والنصح والتوجيهات

وفي الطريق وهو يوصلني إلى دار الصويري نصح بتأجيل نشر حديثه الصحفي، والاكتفاء بإنجاز استطلاع عن مدينة الصويرة، مدينة كناوة والنحت على خشب العرعار ذي الرائحة الزكية.

شركة بمواصفات المواطنة

ازداد الحاج ميلود الشعبي، الحاصل على وسام المكافأة الوطنية من درجة ضابط، شهرة واستطاع بفضل كفاحه ونضاله أن يشيد مجموعته الاقتصادية الكبيرة التي فاقت شهرتها الحدود المغربية، ووصل عن طريق الشركة الأم “يينا”، ومعناها بالأمازيغية أمّي، إلى العالم العربي والأفريقي والأوروبي. وجعلها مجموعة قابضة، تملك العديد من المؤسسات الصناعية والتجارية داخل المغرب وخارجه، حتى وصل عدد مجموعتها إلى أكثر من 40 مقاولة وشركة، كلها شركات مواطنة تشغل أكثر من 20.000 عامل.

وكم من مرة اختيرت مجموعته الاقتصادية من أولى المجموعات الحيوية في بلده المغرب، قبل أن يحتل مكانة مهمة ضمن قائمة فوربس الأميركية التي قدرت ثروته بـ2.9 مليار دولار.

تلقى الشعبي تعليما بسيطا بالمسجد. وبعد ضياع خروف القطيع، خرج إلى ميدان العمل، تارة يرعى الغنم، وأخرى يعمل مزارعا يستخلص أجره عن كل يوم عمل. لكنه بمثابرته وصبره، استطاع سنة 1948 أن ينشئ أولى مقاولاته بمدينة القنيطرة. حيث عمل في مجال البناء والإنعاش العقاري ضمن مجموعة عمّال لا يتعدى أفرادها الثلاثة كان الشعبي رابعهم، يعمل إلى جانبهم بدون كبرياء أو أنانية. دخل مضمار التحدي والمنافسة التجارية، ونَوَّعَ نشاطه العملي باتجاهه نحو صناعة السيراميك عبر إطلاق شركة متخصصة سنة 1964.

وفي سنة 1985 استطاع شراء شركتي دولبو وديماتيت، المتخصصتين في صناعة وتوزيع تجهيزات الريّ ومواد البناء من عائلة دولبو الفرنسية، وهي الشركة التي كان يشتغل فيها أجيراً. وذلك بعد منافسة شديدة استمرت طويلا بين الشعبي وعائلة دولبو.

لقد شكلت عملية شراء دولبو - ديماتيت طفرة نوعية في المسار المهني للمقاول العصامي. أصبحت مجموعة “يينا” القابضة واحدة من أقوى المجموعات الاقتصادية في المملكة المغربية. وما هي إلا سنوات قليلة، ويفوز الشعبي بصفقة شراء الشركة الوطنية للبتروكيماويات سنة 1993. وذلك عندما خَصْخَصَ المغرب بعض مؤسساته.

الحاج ميلود الشعبي ازداد شهرة واستطاع بفضل كفاحه ونضاله أن يشيد مجموعته الاقتصادية الكبيرة التي فاقت شهرتها الحدود المغربية

في سنة 1994 سيطلق شركة إليكترا للمكونات الكهربائية والكابلات والبطاريات، وسيعطي انطلاقة سلسلة أسواق السلام العصرية، التي وصل عددها اليوم إلى 12 سوقا تجاريا. ثم سيؤسس أولى وحدات سلسلة فنادق رياض موكادور بمدينة الصويرة ثم بمدينة مراكش فأكادير. ثم سيؤسس وحدة لصناعة الحديد يطلق عليها اسم “يينا ستيل”، وبعدها شركة “جي بي سي” للكارتون والتلفيف.

السياسة مظلة التجارة

كان الشعبي رجل أعمال ذكي عندما صنع لنفسه مظلة سياسية لحماية تجارته، المظلة التي نسج خيوطها منذ سنة 1963، عندما انتخب رئيسا للغرفة التجارية والصناعية لمدينة القنيطرة ونواحيها. المنصب الرئاسي الذي مكث فيه حتى سنة 1966، ثم أعيد انتخابه للمرة الثانية من سنة 1966 إلى 1969، وهيالسنة التي انتخب فيها رئيساً لجامعة الغرف التجارية والصناعية بالمغرب.

لم يتوقف عند حدود منطقته، بل انتخب لعضوية البرلمان عن مدينة الصويرة وإقليمها، وأعيد انتخابه لولاية تشريعية ثانية لسنة 1993 و2002 و 2007. وحينما قرر سنة 2011 عدم التقدم إلى الانتخابات أضرب عمال في إحدى شركاته للضغط عليه للترشح وهو ما كان، حيث فاز من جديد بمقعد برلماني. لكن عمله السياسي سيجر عليه المشاكل في بعض الأحيان، ما جعله يكف عن الممارسة السياسية المباشرة، ويتفرغ لشؤونه التجارية والاقتصادية.

لم يفرّط في المجتمع المدني بكل أصنافه، بل كان يمده بالدعم والمساعدات والنصح والتوجيهات، وبقي على حاله ذاك، يحظى باحترام الجميع حتى توفى يوم الـ16 من أبريل الماضي بإحدى المستشفيات في ألمانيا، ووري جثمانه الثرى بمقبرة الشهداء بالعاصمة الرباط في جنازة مهيبة.

12