أسلمة الدستور التركي.. استعجال العدالة والتنمية لقطف الثمار قبل الأوان

توجس الأتراك الفخورون بإرثهم العلماني كثيرا من المحاولات المتكررة من حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية الحاكم منذ العام 2002 لتغيير نمط حياة الأتراك والتأثير على عاداتهم اليومية إما عبر إدخال تعديلات وقوانين جديدة على الدستور التركي وإما بالتأثير في الرأي العام عبر آراء القادة السياسيين وما يمررونه من رسائل تهم الدين والأخلاق الإسلامية، ولكن الحدث الأخير المتمثل في دعوة رئيس البرلمان التركي المنتمي للحزب الحاكم إلى شطب العلمانية من الدستور التركي وإلى اعتماد دستور ديني برهن على أن مخاوف هذه الأطراف صائبة لأن مجرد إطلاق هكذا دعوة يعد قفزة قوية من الحزب الحاكم نحو الانقضاض على الدستور وجعله سلاحه في حسم الصراع بين علمانية وأسلمة المجتمع التركي.
الأربعاء 2016/05/04
حصن العلمانية المهدد

أنقرة - قوبلت تصريحات رئيس البرلمان، إسماعيل كهرمان، الذي قال في مؤتمر صحافي “بصفتنا بلدا مسلما، لماذا علينا أن نكون في وضع نتراجع فيه عن الدين؟ نحن بلد مسلم وبالتالي يجب أن نضع دستورا دينيا”، وأضاف “قبل أيّ شيء آخر، يجب أن لا ترد العلمانية في الدستور الجديد”، برفض وتنديد واحتجاجات ومظاهرات خرجت إلى الشوارع وبانتقادات واسعة سواء من معارضي الحكومة التركية أو من أنصار العلمانية الأتاتوركية ومن الأتراك الفخورين بثقافتهم العلمانية التي ظلت لعقود ضمانة للحريات الشخصية وخاصة لفصل الدين عن السياسة.

وبعد حرب دارت بين المدافعين عن علمانية الدولة التركية وبين مؤيدي الحزب الحاكم وأنصار فكرة أسلمة المجتمع “بالقانون” على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، تراوحت بين انتقادات واتهامات يقابلها في الاتجاه المعاكس دفاع عن الفكرة وعن نوايا الحزب الحاكم، سارع الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه إلى بسط مفهوم العلمانية المضمنة في الدستور التركي والتأكيد على أن رئيس البرلمان عبر عن رأيه الخاص، ومؤكدين أن مشروع الدستور الجديد يبقي على مبدأ العلمانية، وأن الحزب لم يناقش حذف هذا المبدأ.

اختلفت الآراء حول تفسير هذه الدعوة وحول تملص حزب العدالة والتنمية منها رغم أن رئيس البرلمان التركي يعرف بقربه من رئيس الدولة، فهناك من المحللين من يقول إنها تأتي في إطار جس نبض المجتمع والشارع والمعارضة في تركيا ومنهم من يقول إن رئيس البرلمان لا يمكن أن يعبر عن رأيه بهذه الجرأة والوضوح ويمس نقطة حساسة في حياة وثقافة الأتراك دون إيعاز ودعم من وراء الستار إما من أردوغان وإما من الحزب الحاكم أو من الاثنين معا سعيا لتحقيق نواياهما وطموحاتهما الإسلامية غير المعلنة.

مهما اختلفت القراءات والتفسيرات سواء من الرأي العام التركي أو من الساسة إلا أن الثابت أن هذه الدعوة تستهدف أعلى هرم السلطة التشريعية وترمي إلى تغيير الدستور في أهم فصوله وقد سبقتها محاولات ومقدمات كثيرة وتصريحات عبرت جميعها عن النوايا الخفية للحزب الحاكم في أسلمة المجتمع التركي.

العدالة والتنمية لم يستثن المرأة والأسرة من مسار الأسلمة عبر القوانين وتشجيعات االزواج والإنجاب
الملاحظ أولا أن هذه النوايا لم تعد مخفية أو قابلة للإخفاء لأن السياسات الاجتماعية للعدالة والتنمية تصب جميعها في اتجاه ضرب العلمانية ومحوها من نمط المعيشة الذي اعتاده الأتراك. ورجب طيب أردوغان عبر عن طموحاته وأرائه التي ترمي إلى إظهار الإرث الإسلامي للدولة والافتخار به وممارسته بكل اعتزاز لأن غالبية المجتمع التركي أي حوالي 90 بالمئة منهم مسلمون.

منذ أن تولى منصب رئيس الوزراء صرح أردوغان بدعمه وتوجهه نحو تغيير نمط العيش التركي الذي يبتعد عن روح التدين والدين الإسلامي لكن وفق رؤيته ورؤية وقراءة حزبه لهذا الدين فهو من عبر عن رؤيته الإسلامية للمجتمع كلما سنحت له الفرصة دون تردد، وقد عبر مثلا عن معارضته لشرب الكحول عندما قال إن مشروبنا الوطني هو العيران وليس البيرة وقد تبعت ذلك ممارسات عديدة تستهدف بيع واستهلاك الخمر ومن بينها محاولات إخراج محلات بيع الكحول وشربها إلى خارج المدن وفرض عقوبات على سائقي السيارات في حالة سكر، وهو أيضا من دعم رفع حظر الحجاب في جميع مؤسسات الدولة من جامعات ومدارس وغيرها من الفضاءات العامة، معتبرا أن ذلك يندرج في إطار مجموعة من الإصلاحات المتعلقة بحقوق الإنسان التي طال انتظارها، واليوم بات ملحوظا ارتفاع عدد المحجبات في المجتمع حتى أن التركيات أصبحن في ريادة في موضة الحجاب في العالم الإسلامي.

أما في ما يتعلق بالمرأة والأسرة فإن العدالة والتنمية لم يستثنهما من مسار الأسلمة إما من خلال القوانين وإما عبر التشجيعات الرسمية على الزواج والإنجاب وإما من خلال التدخل في مكانة المرأة الأم في الأسرة والعلاقة بين مسؤوليتها الأسرية التي يضبطها الدين بالأمومة كواجب مقدس وبين خروجها للعمل، فقد تحدث أردوغان منذ عام 2013 قائلا “نريد تربية نشء متدين… هل تنتظرون من حزب محافظ وديمقراطي مثل العدالة والتنمية (الحاكم) أن ينشئ جيلا من الملحدين؟ ربما يكون هذا شأنكم ورسالتكم لكنه ليس شأننا.

منذ أن تولى منصب رئيس الوزراء صرح أردوغان بدعمه وتوجهه نحو تغيير نمط العيش التركي الذي يبتعد عن روح التدين والدين الإسلامي لكن وفق رؤيته ورؤية وقراءة حزبه لهذا الدين
سننشئ جيلا ديمقراطيا محافظا يؤمن بقيم ومبادئ أمتنا”، موجها خطابه وتهمه بالإلحاد لأحزاب المعارضة. ولأن تربية النشء المهمة الأولى والأساسية للمرأة وفق أيديوليجية العدالة والتنمية فإن المرأة التركية كانت من أبرز الفئات الاجتماعية وأكثرها استهدافا من قبل أردوغان وحزبه بدءا من محاولة فرض الحجاب على المرأة، وإقرار قوانين تمنع الإجهاض، وتقديم المنح للأمهات اللاتي ينجبن ثلاثة أطفال. كما صرح أردوغان مرارا وتكرارا بأن الفضاء الطبيعي لوجود المرأة هو المنزل ودورها الأصلي هو رعاية الزوج والأبناء.

وإلى جانب الدور المركزي الذي لعبه أردوغان في تمهيد الطريق أمام مساعي إبعاد المجتمع التركي عن كل ما يربطه بالعلمانية منذ أن صعد حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم ومنذ كان أردوغان رئيسا للوزراء فإن وصوله إلى منصب الرئاسة وسيطرة الحزب على دواليب الحكم جعلا باقي أعضاء الحزب أمثال رئيس البرلمان الحالي أكثر جرأة في التعبير عن نواياهم ورؤاهم التي لا يمكن أن تفصل عن رؤية الحزب وسياساته الاجتماعية وطموحاته في جعل تركيا نموذجا للدولة الإسلامية، ولا ننس ما دار حول المساجد ومدارس تكوين الأئمة وإبعاد رجال الدين المعتدلين عن الشأن الديني والجوامع وتعويضهم برجال دين تابعين للحزب عرفوا بتشددهم الديني. كما لا يمكن فصل نشاط هؤلاء عن الجمعيات الإسلامية والقوى الإسلامية المحلية التي تغلغلت في القرى والمحافظات التركية البعيدة لتدعم جهودهم وتسعى لنشر أيديولوجية إسلامية بعينها تترجم انتماء الحكومة إلى حزب إسلامي يستمد مبادئه من نهج الإخوان المسلمين.

وما يجعل دعوة رئيس البرلمان إسماعيل كهرمان مثيرة للصدمة رغم ما تقدم من أمثلة تؤكد أن توجهات الحزب الحاكم لأسلمة المجتمع التركي ثابتة ومتواصلة رغم ما تلقاه من معارضة ورفض هو أنه لم يتحدث أحد من رجال السياسة البارزين ومن أعضاء الحكومة التابعين للحزب الحاكم بهذا الشكل المباشر وبصريح العبارة عن أسلمة الدستور التركي وعن شطب الإرث العلماني الذي مثل لعقود ميزة تنفرد بها تركيا عن باقي دول المنطقة والدول ذات الأغلبية من المسلمين.

12