الطريق إلى غزة.. حماس تلملم سلة بيضها المكسور

لندن - كان يوما قائظا من شهر أغسطس العام الماضي، رفع من حرارته تكدّس فلسطينيين على جانب معبر رفح الحدودي مع مصر انتظارا لعبورهم إلى الجانب الآخر في حافلة كانت تنتظرهم على عجل.
لكن بعد أن قطعت الحافلة مسافة وجيزة داخل شبه جزيرة سيناء المصرية أوقفت فجأة تحت تهديد السلاح من قبل ملثمين، صعدوا إلى الحافلة واقتادوا أربعة شبان تعرّفوا عليهم من دون تردد، وانطلقوا بهم داخل سيارات دفع رباعي إلى قلب الصحراء.
قالت حركة حماس الفلسطينية لاحقا إن هؤلاء الشبان الأربعة هم عناصر مقاتلة في كتائب عز الدين القسام، ذراع الحركة المسلحة، وأن السلطات المصرية هي التي اعتقلتهم، إذ كانوا مطلوبين لديها لاتهامهم بالمشاركة في عمليات إرهابية في مصر.
وتتهم مصر عناصر حركة حماس بمساندة تنظيم الإخوان المسلمين داخل مصر عبر التسلل إلى أراضيها لتنفيذ عمليات تستهدف قوات الأمن والجيش.
وفي حوار صحافي قبل احتجاجات 30 يونيو 2013 بيومين أقرّ عصام العريان، القيادي الكبير في الإخوان المسلمين عندما سئل عن دور حماس في تسهيل هروبه مع آخرين من السجون المصرية إبان احتجاجات 25 يناير 2011، باقتحام حماس وحزب الله اللبناني للسجون.
قال العريان حينها “عندما يُعرف عصر 28 يناير (جمعة الغضب)، أن البلد انهار، والجيش استلمه، والشرطة انكسرت، والسجون واجهت تمردا، ماذا ستفعل لو أنت من حزب الله أو من حماس، ولك زملاء في هذه السجون؟ ستأتي لإطلاق زملائك”.
لم يكن العريان أو أي من قيادات حماس يعلم أن دخول عناصرها إلى الأراضي المصرية لاقتحام السجون سيظل في ذاكرة أجهزة الأمن.
كان حادث اعتقال 4 عناصر منتمين إلى حماس واحدا من بين حوادث عدّة شكلت حالة الجمود التي طبعت العلاقات بين مصر وحركة حماس منذ الإطاحة بالرئيس المصري المنتمي للإخوان المسلمين محمد مرسي إثر احتجاجات شعبية حاشدة عمّت المدن المصريـة في 3 يوليو 2013، وطالــبت بإسقاطه.
كانت حركة حماس تدفع ثمنا باهظا لوضع بيضها في سلة جماعة الإخوان المسلمين، إذ تكسر كله لاحقا بعد سقوط الإخوان، وتصاعُد الحرب الأهلية السورية التي فضلت حماس أن تميل فيها لصالح فصائل المعارضة المسلحة، متحدية إيران أحد أهم داعمي نظام الرئيس بشار الأسد.
لكن على عكس ما هو سائد، ظلت إيران تقدم الدعم المالي والعسكري لفصائل عزالدين القسام رغم القطيعة الحاسمة بين طهران والجناح السياسي للحركة الذي يتزعمه رئيس المكتب السياسي خالد مشعل.
طهران تستمر في إرسال دعم مالي كبير إلى حماس عبر العديد من شركات الصرافة في القاهرة، قبل أن يتم نقل هذه الأموال إلى سيناء ومن ثم داخل القطاع
يقول سمير غطاس، رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية والنائب في البرلمان المصري، إن “استمرار العلاقات الوطيدة بين الجناح العسكري في الحركة وإيران أودى بحياة أحمد الجعبري نائب القائد العام لكتائب القسام في نوفمبر 2012″.
وأكد لـ”العرب” أن الجعبري “زار طهران في نفس العام ومنح جواز سفر إيراني، كما سمح له بارتداء زي رجال الدين الشيعة، ومن ثم سافر إلى بيروت متخفيا في شخصية رجل دين إيراني، والتقى خلال الزيارة بحسن نصرالله الأمين العام لحزب الله".
وقتل أحمد الجعبري في 14 نوفمبر 2012 إثر غارة إسرائيلية استهدفت سيارته داخل قطاع غزة. وقال جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي وقتها إن الجعبري “قتل بسبب نشاطه الإرهابي على مدى عشر سنوات”.
في 11 سبتمبر الماضي بدأ الجيش المصري ضخ كميات كبيرة من مياه البحر في أنابيب مدّها في وقت سابق على طول الحدود مع قطاع غزة، في محاولة لتدمير أنفاق التهريب أسفل الحدود عبر إغراقها.
وقال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال زيارة سابقة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى القاهرة إن “الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها مصر على الحدود مع قطاع غزة، تتم بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية”. وقال عباس في مداخلة مع قناة فضائية مصرية “إنه لم يترك مناسبة إلا وطالب بإغلاق الأنفاق سواء بإغراقها بالمياه أو ببناء سياج حديدي على الحدود”.
أدركت حماس قبل ذلك بوقت كاف ضرورة الخروج بأي ثمن من العزلة التي تحولت إلى قدر منذ رحيل محمد مرسي عن السلطة في مصر. وفي 17 يوليو من نفس العام كان وفد يضم مشعل وموسى أبومرزوق وصالح العرعوري ومحمد نزال يصافح في الرياض العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي تولى الحكم في السعودية بعد وفاة العاهل الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي كان يرى في جماعة الإخوان المسلمين والحركة الفلسطينية خطرا كبيرا على استقرار المنطقة.
وكانت هذه الزيارة إعلانا من حماس على اختيارها العمق العربي السني الأوسع على حساب إغراءات إيران التي يقول متابعون للشأن الفلسطيني أنها عرضت على الحركة تمويلا سخيا واعترافا بتمثيلها الحصري للشعب الفلسطيني، مقابل الاصطفاف معها في مواجهة السعودية. لكن علاقة الجناح العسكري في الحركة ظلت متماسكة بطهران وحزب الله الذي أعلنته الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي هذا الشهر منظمة إرهابية. ولا تستطيع إيران، التي ضغطت على حماس لإلغاء الزيارة إلى السعودية، أن تضحي برصيد طويل من دعم الحركة الفلسطينية على مدار أكثر من عقد. وتقول مصادر إن الاتصالات مازالت جارية بين كتائب عزالدين القسام وحزب الله، أهم أذرع إيران في المنطقة.
|
ورغم ذلك خرج الجناح السياسي بأرباح كبيرة بعد التقرب من السعودية، التي طالبها سلطاتها بالتوسط لدى مصر من أجل التخفيف من حدة الضغط على الحركة. وبالفعل، ألغى القضاء المصري لاحقا حكما صدر في فبراير 2015 باعتبار حركة حماس تنظيما إرهابيا.
جني الثمار.. مصر
في أواخر فبراير الماضي أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن إعلان اتفاق التطبيع بين تركيا وإسرائيل سيصدر خلال أيام. ويشمل هذا الاتفاق المحتمل إنشاء ميناء بحري في قطاع غزة، كما تسعى أنقرة إلى الحصول على حق المشاركة في إدارة القطاع.
لكن مقترح إنشاء الميناء يواجه معارضة شرسة داخل إسرائيل. ويقود هذه المعارضة وزير الأمن موشيه ياعلون، ومنسّق عمليات الحكومة في الضفة الغربية الجنرال يوآف مردخاي، الذي قال “لا توجد أي مفاوضات حول إنشاء ميناء في غزة، وأي قرار سيتخذ بإنشاء ميناء بحري في غزة سيكون بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية فقط”.
وتقوم فكرة بناء ميناء بحري في غزة على إنشاء ميناء عائم قبالة شواطئ قبرص لتفتيش البضائع التي تنقل بالسفن إلى قطاع غزة.
ولا تمانع الولايات المتحدة بناء ميناء غزة شريطة أن يتم فرض رقابة دولية على نشاطه. لكن هناك من يعتقد في مصر أن محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كسب نفوذ في غزة تشكل تهديدا للأمن القومي المصري.
ومازالت عقلية الحرب الباردة مع مصر تسيطر على أردوغان الذي يشعر بالعجز أمام إلحاحه الذي لا يترك صدى عند أحد بضرورة الإفراج عن مرسي وقيادات جماعة الإخوان الذين يخضعون في مصر لمحاكمات بتهمة قتل المتظاهرين وتنفيذ عمليات إرهابية والتخابر مع جهات أجنبية.
ويقول غطاس إن “مصر لا تشعر بأي خطر جراء إنشاء ميناء بحري في غزة، لكن الخطر الحقيقي بالنسبة إليها هو حصول أردوغان على موطئ قدم رسمي في غزة يفضي إلى إنشاء إمارة إسلامية في القطاع بعد فصله عن الضفة الغربية”.
لكنه قال أيضا إن “إسرائيل لن تسمح لتركيا بإدارة القطاع، إذ تهيمن عليها نظريتها للأمن التي تعتمد على أن يكون الأمن في إسرائيل بأيدي الإسرائيليين من دون الاعتماد على أي قوة خارجية، بما في ذلك قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة، أو قوات حلف الناتو”.وأسرعت مصر لاحتواء الموقف على حدودها الشمالية الشرقية الرخوة.
وبعد مرور سبعة أشهر على لقاء وفد حماس بالعاهل السعودي، أعلنت مصر تورط حركة حماس مع الإخوان المسلمين في عملية اغتيال النائب العام المصري الراحل هشام بركات أواخر يونيو 2015. ويعتقد كثيرون أن التصعيد المصري تجاه حركة حماس كان محاولة للهروب إلى الأمام لإنهاء حالة الجمود اللانهائي المسيطرة على العلاقة الباردة بين الجانبين. وترى قيادات داخل حماس أن الخطوة المصرية، وإن كانت صادمة، ربما كانت “ضارة نافعة” بالنسبة إليها لترك عنق الزجاجة الذي ظلت محشورة بداخله طويلا دون أدنى قدرة على الخروج لاستنشاق أي هواء سياسي في محيط المنطقة المضطربة.
حماس والمخابرات
أتى التصعيد بثماره. وقالت تقارير الأسبوع الماضي إن وفدا رفيع المستوى من حركة حماس التقى بمسؤولين في المخابرات العامة المصرية بحثا عن مخرج قد يتيح الفرصة أمام مصر كي تسبق تركيا إلى القطاع. وقالت مصادر سياسية لـ”العرب” إن مصر طلبت من حماس عدة مطالب خلال الاجتماع الذي مُنع الإعلام من تغطيته.
|
وأهم هذه المطالب إشراف الحرس الرئاسي التابع للسلطة الفلسطينية على معبر رفح، والامتناع عن حفر المزيد من الأنفاق في سيناء، وفك ارتباط الحركة عن جماعة الإخوان المسلمين على غرار فرع الجماعة في الأردن، وعدم استغلال الشواطئ المحاذية لمصر لتهريب الأسلحة باستخدام قوارب صغيرة بمحركين تعرف باسم “الحسكة”، بالإضافة إلى الجماعات التكفيرية.
ويقول غطاس إن “هناك جماعة في غزة تعرف بلواء التوحيد تضم أكثر من 1600 مقاتل وتقودها عناصر منشقة عن كتائب القسام التابعة لحماس، وتعلن ولاءها لتنظيم داعش في سوريا والعراق”.
وأكد لـ”العرب” أنه يعلم إسمي شخصين ينتميان إلى “لواء التوحيد” شاركا في عملية كرم القواديس ضد الجيش المصري، وأن المخابرات المصرية طلبت من حماس تسليمهما. لكنه امتنع عن ذكر اسميهما لأسباب أمنية. ووقع هجوم كرم القواديس في 24 أكتوبر 2014 مستهدفا نقطة التفتيش العسكرية في المنطقة التي تعرف بنفس الاسم قرب مدينة الشيخ زويد بشمال سيناء. وأودى الهجوم الكبير بحياة 33 عسكريا، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى إعلان حالة الطوارئ وحظر تجول ليلي في مناطق بشمال سيناء.
وقالت تقارير في صحيفة “الأهرام” المصرية الرسمية إن المباحثات بين الجانبين فشلت لأن وفد حماس “لم يظهر استعدادا للتعاون”. وكان الاجتماع فرصة لحماس كي تنهي حالة الضغط الاستراتيجي الذي تعاني منه نتيجة تراجع عائداتها الاقتصادية بعد أن دمرت السلطات المصرية عددا كبيرا من الأنفاق. كما يشكل تعثر المصالحة مع حركة فتح ضغطا آخر.
ويقول محللون إن آمال جناح حماس السياسي في عقد تحالف جديد مع السعودية تراجعت أيضا بشكل كبير. ويرون أن هناك قلقا سعوديا من انزلاق قطاع غزة بشكل أكبر تحت تأثير إيران الذي شهد تراجعا طفيفا فقط خلال الفترة الماضية، لكن في نفس الوقت يخشى مسؤولون سعوديون من انهيار القطاع بشكل كامل.
وتستمر طهران في إرسال دعم مالي كبير إلى حماس عبر العديد من شركات الصرافة في القاهرة، قبل أن يتم نقل هذه الأموال إلى سيناء ومن ثم داخل القطاع. لكن تدمير الأنفاق تسبب في نقص كبير في إمدادات الأسلحة للحركة، التي اضطرت إلى العودة إلى ورش محلية لتصنيع صواريخ صغيرة وقذائف الهوان. كما يستثمر الجناح المسلح في حفر عدد كبــير من الأنفاق باتجاه إسرائيل.
كاتب مصري مقيم بلندن