الحوار مع الإرهابيين في تونس: تحمس رسمي يقابله غضب شعبي

لم تمر تصريحات وزير العدل التونسي ورئيس الجمهورية مرور الكرام حول فتح باب الحوار والتفاوض مع الإرهابيين، سواء الخلايا النائمة في تونس أو العناصر التي تنوي العودة من بؤر التوتر في سوريا والعراق وليبيا. فالمسألة ليست بالسهولة التي يتصورها المسؤولون السياسيون بالسماح لمن تورط في دماء الناس في تونس وخارجها بأن يعود ويتوب عما فعل وكأن شيئا لم يكن.
الثلاثاء 2016/03/22
ضرب الإرهاب بقوة

تونس ـ لقد تباينت الآراء حول كيفية التعامل مع العائدين التونسيين من بؤر التوتر بعد أن قال وزير العدل إن “الإرهابيين هم أبناء الوطن”. فهناك من يطالب بضرورة إجراء تحقيق أمني مفصل لكل واحد من هؤلاء لمعرفة نوعية الأسلحة التي تدرب عليها والأماكن التي تردد عليها والجماعات التي كان يأتمر بأوامرها مع الإبقاء عليه في حالة إيقاف إلى أن تتم محاكمته وفق القانون وسجنه ثم البحث في إصلاحه أثناء فترة عقوبته. أما البعض الآخر فيرى أن في إعلان الوزير ورئيس الجمهورية العفو عن التائبين من الإرهاب دعوة إلى إعادة تهيئة هؤلاء ودمجهم مرة أخرى في الحياة العامة، رغم اقتراب هذا الحل من الاستحالة.

ونظرا إلى حساسية ملف الإرهاب وضرورة الوقوف بشكل حازم وبقوة، فإن عددا من الخبراء والمتابعين أكدوا أن الجدل حول السماح للإرهابيين بالتوبة من عدمه يعد جدلا عقيما، وأن الظرف الذي تمر به تونس والمنطقة اليوم ليس الظرف المناسب للنقاش حول توبة المجرمين خاصة وأن الإرادة العامة لدى الشعب التونسي موحدة اليوم في الحرب على الإرهاب أكثر من أي وقت مضى. لكن الكشف عن سر الذهاب في سياق “المصالحة” مع الإرهابيين يكمن في التركيبة السياسية للائتلاف الحاكم الذي يسير تونس اليوم.

وإذ يؤكد عدد من السياسيين خاصة اليساريين في تونس أن وجود حزب حركة النهضة كطرف قوي في الحكومة يؤثر بشكل مباشر على مقاربات العمل الحكومي مع معضلة الإرهاب. فمقترح الحكومة اليوم الذي يدور حول فتح حوار مع الإرهابيين مصدره الأساسي حركة النهضة الحاكمة مع نداء تونس وأحزاب أخرى.

ويقول المنسق العام لحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي سمير الطيب إن “ما يروج اليوم حول ضرورة الوحدة الوطنية والالتفاف حول الدولة ليست سوى دعوات ملغومة، فالحكومة تريد فتح حوار مع الإرهابيين وهذا غير معقول. ثم إن الوحدة الوطنية لا تكون فعالة إلا إذا تمت صياغة وثيقة يتعهد فيها الجميع بمحاربة الخطاب المتطرف وعزل الأئمة المتشددين ومحاسبة من قصروا أمنيا وكانت لهم فرصة القبض على إرهابيين كبار ولم يفعلوا”، مؤكدا أن الحرب على الإرهاب تتطلب إرادة سياسية واضحة في القضاء عليه وليس فتح حوار معه لتمكينه من مواصلة الحياة.
الإرهابيون مارسوا القتل والعنف في أبشع صوره وتجلياته وتدربوا على أسلحة ذات خطورة ولا يمكن أن يعودوا مواطنين أسوياء

كما أكد عدد من نواب الجبهة الشعبية (يسار قومي وماركسي) أن الحوار مع الإرهاب أمر مرفوض تماما وأن الخيار المطروح أمام الدولة التونسية هو القضاء عليه تماما دون أي تردد أو تأخر.

طرحُ مسألة الحوار مع الإرهابيين العائدين من سوريا والعراق واليمن وليبيا وحتى من دول أوروبية يعتبر طرحا معتلّا ولا يحمل مصداقية منذ البداية. فقد عرفت الساحة الأمنية التونسية ظاهرة جديرة بالاهتمام وهي عودة العناصر الإرهابية التي قضت مدة سجنية أو خرجت بعفو تشريعي إلى بؤر الإرهاب مرة أخرى. وقد صاحبت فترة خروجهم من السجون تبريرات من قيادات حركة النهضة الإسلامية التي كانت تحكم تونس في ائتلاف آخر (الترويكا)، قائلة إن تلك العناصر قد تابت ولن تعود إلى الإرهاب مرة أخرى. ولعل أبوعياض (سيف الله بن حسين) يعد أبرز دليل على زيف ذلك الخطاب. فقد خرج المكنى أبوعياض من السجن بعفو تشريعي، ليصبح اليوم زعيما لتنظيم أنصار الشريعة الإرهابي وربما زعيما لداعش أيضا في ليبيا.

لكن تبقى آراء البعض إلى اليوم متمسكة بضرورة إعادة “أبناء تونس" إلى إطار التحاور ومحاولة امتصاص التطرف في أذهانهم، ويؤكد بعض الحقوقيين المقربين من التيار الإسلامي في تونس أن الحوار مع الإرهابيين يمكن أن يكون كفيلا بالقضاء على هذه الظاهرة دون اللجوء إلى القوة الأمنية والعسكرية.

ويعتبر هذا الرأي ساقطا لا محالة نظرا للخطر الإرهابي المسلح الداهم على تونس، إذ ليس من المعقول التفاوض مع جهة إرهابية مسلحة لم تهب جيشا وقوات مسلحة نظامية فما بالك بأن تقتنع بكلمات ربما تكون أضعف من الدغمائية التي يتبنونها، فالأصل في الإرهاب غياب العقل والأصل في محاربته هو القوة والشدة وليس التردد.
مناصرو الحوار مع الإرهابيين: مسؤولون سياسيون في الحكومة التونسية يسعون إلى إعادة دمج العناصر الإرهابية في المجتمع وهذه المقاربة تقودها أساسا حركة النهضة المشاركة في السلطة.

السلطات التونسية لا تسجن الإرهابيين العائدين لاكتظاظ السجون

تساءل وزير العدل التونسي عمر منصور عن مدى نجاعة العقاب السجني للإرهابيين، خاصة وأن الدافع في اعتناقهم ممارسات إرهابية هو دافع فكري بالأساس، وقد صرح الوزير لإحدى الإذاعات الخاصة التونسية قائلا “الإرهابيون، في الأخير، من هم؟” مجيبا أنهم شبان تونسيون قد أضاعوا البوصلة، مضيفا “هم أبناء من وطننا ضلت بهم الطريق وذهبوا في الطريق الخاطئ، وأساؤوا إلى مجتمعهم، ونحن مع العقاب لكن لا بأس إن استطعنا إصلاح العقلية التي أخطأت ودخلتها أفكار سيئة”.

وقد فتح هذا التصريح الباب أمام موجة انتقادات حادة للمقاربة التي تعتمدها المؤسسات التنفيذية التونسية لمكافحة الإرهاب، لما يمثله خطر التفاوض مع الإرهابيين من إعادة تلميع لصورتهم وتمكينهم من فرص أخرى لتنفيذ هجمات. وقد أجاب وزير العدل على هذه الانتقادات قائلا “إن الكثير من الشبان في التنظيمات الإرهابية نادم على ما اقترفت أياديهم، وهؤلاء نادمون محاصرون ولا يمكن لهم أن يقرروا العودة عن سلوكهم الإجرامي، لأن لهم خوفا من الدولة التونسية”.

ويقبع في سجون تونس اليوم نحو 2000 شخص بين مدانين في جرائم إرهابية وموقوفين على ذمة قضايا متعلقة بـالإرهاب، وذلك حسب صابر الخليفي مدير عام إدارة السجون والإصلاح بوزارة العدل.

وقال كمال بربوش الناطق الرسمي باسم النيابة العامة بتونس إنه “حتى موفى فبراير الماضي، بلغ عدد قضايا الإرهاب المعروضة على القضاء التونسي 1944 قضية، وعدد الموقوفين على ذمة هذه القضايا 778 شخصا”.

ويعكس هذا الرقم إشكالية أخرى في السجون التونسية وهي الاكتظاظ. فقد أكد المسؤولون أن المساحات السجنية لم تعد قادرة على احتواء هذا العدد الكبير من الموقوفين والمدانين بعد صدور الحكم عليهم، مؤكدين أن جرائم الإرهاب زادت من تعقيد هذا المشكل.

وتقول مصادر إعلامية تونسية إن إشكال اكتظاظ السجون يعدّ الدافع الخفي لقرار السلطات اللجوء إلى أسلوب التفاوض والمراقبة المسبقة للأفراد المشتبه فيهم والعناصر التي تعود من الشرق الأوسط وليبيا بعد أن كانت مشاركة في جرائم قام بها تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة.

الكثير من الشباب في التنظيمات الإرهابية نادم على ما اقترفت يداه ويجب على الدولة فتح حوار معه لثنيه عن المواصلة

وقد صرح رئيس الجمهورية التونسي الباجي قائد السبسي لصحيفة الواشنطن بوسط مؤخرا أن الدولة التونسية مهتمة بأشياء أخرى أكثر أهمية من موضوع العناصر الإرهابية التي تعود إلى تونس. وعن سؤال وجهته له الصحيفة حول كيفية التعامل مع بعض الذين انضموا لداعش أو للقاعدة وقد يرغبون في العودة إلى تونس؟ ولو عادوا هل سيتم سجنهم فورا؟، أجاب السبسي قائلا “لن يتم سجنهم فورا، لأن لدينا قوانين تحفظ حقوق كل فرد وحريته، لم نعد في ظل النظام السابق، ولا يمكننا حبس أي شخص دون محاكمة. فمن يعود سوف يكون تحت المراقبة، وإذا لم يلتزم بالقانون فإنه يتحمل المسؤولية، فنحن ليس لدينا أموال لتطوير اقتصادنا، لذلك لن نخصص مواردنا لبناء السجون”.

ولئن كان تصريح الرئيس السبسي قد أثار حفيظة عدد من المثقفين والمناضلين والأحزاب إلا أن الأجهزة الرسمية التونسية تعمل على الالتزام بهذه التوجيهات بشكل أو بآخر. حيث أعلنت وزارة العدل أن السجون التونسية تعاني من “الاكتظاظ” إذ يفوق عدد نزلائها طاقة استيعابها الحقيقية مرة ونصفا.

كما أكدت مجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة حول استخدام المرتزقة أن أكثر من 5500 تونسي غالبيتهم تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاما التحقوا بالجهاديين في الخارج ولا سيما في سوريا والعراق وليبيا. وقد يشكل هذا الرقم إشكالية لدى مسؤولي وزارة العدل إذ لا يمكن أن يوضع كل هؤلاء في السجون التونسية الحالية التي تعاني بدورها في هذه المرحلة من الاكتظاظ. وقد استفزت هذه التصريحات العديد من المعارضين لهذا التوجه.

رافضو الحوار مع الإرهابيين: مثقفون وباحثون ومعارضون سياسيون يرون فقدان أي أمل في إعادة إدماج من تورطوا في القتل والذبح ويشككون في نجاعة هذه المقاربة في القضاء على الإرهاب.

الظرف ليس ملائما للتوبة وعلى الدولة الضرب بقوة

يعارض أغلب الخبراء في مجال القانون والأحزاب المعارضة في تونس توجهات الحكومة الحالية في إقامة حوار مع العناصر الإرهابية وتفضيل الحلول السلمية على الحلول الردعية العقابية، حتى وصل الأمر إلى نية تسبيق ما يسمى “التوبة” على القوانين الحالية المتعلقة بالإرهاب والمفعلة تحت ظرف الطوارئ في البلاد.

فقد طرحت السلطات التونسية مشروع قانون يمكن الإرهابيين العائدين من بؤر التوتر من العفو وعدم معاقبتهم جزائيا شرط إعلان توبتهم وإثبات عدم تورطهم في جرائم القتل والعنف والترويع في تلك المناطق. وفي هذا السياق أوضح أستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية والمحلل السياسي إبراهيم العمري أن “العناصر العائدة من بؤر التوتر في الحقيقة تمثل خطرا على أمن الدولة ومهما كان سبب العودة فإنه من الضروري أن تحال على القضاء بمقتضى قانون الإرهاب والقوانين النافذة في تونس، وليس قانون التوبة”. فقانون التوبة حسب الخبير هو استثناء وليس الأصل، والتوقيت الآن هو توقيت حرب وليس تفاوض.

وأضاف المحلل العمري أن كل من فكر أو ذهب فعلا إلى تلك المناطق فهو مدان باعتباره أضمر الذهاب وقال إبراهيم العمري “حتى وإن كان القانون التونسي لا يحاسب على النية ما لم تتحول إلى فعل فواجب الدولة في هذا التوقيت بالذات التعامل بشدة مع هؤلاء فهم قد يتحولون مجددا إلى إرهابيين”، مشيرا إلى أنه حين يتخذ القانون مجراه، “فإن النصوص القانونية في حدّ ذاتها سوف تعمل على احترام حقوق الإنسان، منها المحاكمة العادلة وحق الدفاع، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار خطورة هؤلاء، فالتوبة يجب أن تكون بعد المحاكمة، والتأهيل يكون داخل السجون عبر برنامج دقيق لفرز الشخص الذي تاب فعلا، وإثبات ذلك من الناحية النفسية عن طريق خبراء والإبقاء على الشخص الذي مازال يحمل الفكر المتطرف رهن المراقبة المشددة خاصة بعد الانتهاء من العقوبة إن كانت قصيرة”.

وتؤكد التقارير الأمنية والإعلامية في تونس أن جل القيادات الكبرى والعناصر الرئيسية في الخلايا الإرهابية في تونس أو ليبيا تعد من العناصر التي أفرج عنها في العفو التشريعي العام بعيد أحداث 14 جانفي 2011، وهو ما يثبت أن مقاربة الحوار مع الإرهابيين لن تجدي نفعا، بل هي ضخ جديد للنفس الإرهابي.

لا يمكن في الوضع الراهن الحديث عن “قانون التوبة” فمن حق كل دولة الدفاع عن أمنها والذود عن سيادتها

وتؤكد تصريحات أمنية أن العديد من العناصر التي سقطت بين قتلى وأسرى لدى قوات الجيش والأمن التونسيين في المعارك الأخيرة في بنقردان كانت قد أفرج عنها سنة 2011 بمقتضى مرسوم العفو التشريعي العام بعد أن كانوا مسجونين جميعهم من أجل قضايا إرهابية خلال فترة حكم بن علي وأحدهم كان معتقلا في غوانتانامو وتسلمته تونس سنة 2009 بطلب من الولايات المتحدة الأميركية متسببا في أزمة بين البلدين بعد أن طالب الأميركيون بزيارته داخل السجن للاطلاع على ظروف إيقافه إلا أن بن علي رفض بصفة قطعية هذا الطلب.

وردا على الذين يدافعون عن “قانون التوبة” أجابت الباحثة في علوم الإعلام والمختصة في الخطاب الإسلامي سلوى الشرفي أن هؤلاء المسؤولين “جانبوا الصواب لأنهم بنوا قناعتهم على اعتقاد وليس على حقيقة، فهؤلاء التائبون مارسوا القتل والعنف في أبشع صوره وتجلياته وتدربوا على أسلحة ذات خطورة وعاشوا تجارب حرب العصابات، وشفاؤهم من هذا المرض صعب جدا خاصة أن التجربة في تونس أثبتت ذلك، فالبعض ممن تمتع بالعفو التشريعي العام لسنة 2011 عاد إلى ممارسة العنف والاندماج في المجموعات المتطرفة عوض الاندماج داخل النسيج المجتمعي المواطني التونسي”.

وأضاف عدد من الحقوقيين أنه لا يمكن في الوضع الراهن الحديث عن “قانون التوبة” فمن حق كل دولة الدفاع عن أمنها والذود عن سيادتها كما لا يمكن لهذا القانون أن يفعل أو ينجح إذا لم يتم تحديد الإطار القانوني الدقيق له.

12