سؤال في المستقبل
يختلف مفهوم المستقبل لدى الوثني أو البوذي أو لمعتنقي الأديان السماوية، كما يختلف عن هؤلاء لدى العلماني الذي يفصل في فكره بين الرؤية الدينية للزمن والحقيقة العلمية للتقدم وتحت وطأة العدمية العالمية التي أوجدتها الحروب وصعود العنف والارهاب الديني، فإن النظرة للمستقبل تغيرت تماما شأنها ِشأن أيّ فكرة تخص الحياة البشرية.
كانت الحضارات القديمة تفكر بالمستقبل باعتباره زمن ما بعد الموت، بمعنى أنه مرتبط بالزوال، فلا ينتظر السومري أو البابلي (مستقبلا) كالذي ينتظره فرد يعيش في القرن الحادي والعشرين، كان المستقبل في الثقافة السومرية شأنا متعلقا بالمجهول الغامض واستخدموا معه مصطلحات تدل على المكان ليصفوا الزمان، فالماضي حسب وصفهم هو الذي “يقع بين عيني المرء” باعتباره معروفا بتفاصيله وأحداثه، بينما يوصف المستقبل بأنه “ما يقع وراء المرء” وليس بوسعه معرفته فامتزج مفهوما الزمان والمكان عندهم، الماضي متاح ومنه صنعت الذكريات وفيه حدثت الأحداث ومر عبره الملوك وقصص الحب والولادات والموت، فلا يرون الزمن كما ندركه ونعيشه، إنما يرونه مكانا ارتداديا يتجهون فيه من الأمام إلى الوراء ويختلف عنهم في ذلك الهنود الذين يرون مستقبل المرء في فكرة (الكارما) العاقبة التي يتحدد فيها مصير الانسان بناء على سلوكه في حياته فيتناسخ مرارا في هيئات حيوانية أو بشرية ليكفّر عن ذنوب حياته الأولى ويعود ذات مستقبل إنسانا صالحا.
غير هؤلاء وأولئك اهتمت مجتمعات القرون الوسطى -وتحت تأثير الكنيسة- بفكرة المستقبل على أنها الأبدية والعيش المخلد، عيش الزمن خارج آلية الزمن العادي الخطي لأنهم مسكونون بفكرة النهاية فكرة زوال العالم وحدوث قيامة على نحو ما، فقام مفكرو ومنظرو تلك الحقب بالترويج لموضوعة الخلاص الفردي ومعتبرين التفكير بخلاص جماعي للعالم شأنا مستحيل التحقق، وما علينا لكي نعيش فترة انتظار النهاية إلا أن نسعى للخلاص الفردي وحسب، وأن نكون مسؤولين عن خلاصنا إزاء حتمية الزوال القادم.
بعد ذلك تقدمت المشهد الإنساني فكرةُ الحداثة التي تبرعمت في حقولها الاشتراكية اليوتوبية على يد شارل فورييه الفرنسي الذي سبق كارل ماركس وعاش بعد الثورة الفرنسية ومات قبل كومونة باريس الدامية وتخيل إمكانية صنع مستقبل فردوسي للإنسانية عن طريق المشتركات أو التعاونيات، ووضع تصورا طوباويا لمزرعة أو مشترك يقوم على أسس اقتصادية ويعيش فيه جمع من الناس يحققون نظاما اقتصاديا ليس عن طريق التنظير والوعظ الكنسي بل بتطبيقه حقيقة على الأرض، ولبث ينتظر أن يموّل مشروعه أحد أثرياء عصره لكنّ أحدا لم يحقق أمله ومات ولم يلمس ذلك المستقبل.
وأتى ماركس بنظريته التي لوحت بآمال براقة تبشر بمستقبل سعيد للبشرية تتحكم الطبقة العاملة بها وتسيّر أمورها بدكتاتورية شمولية مستبدلة فكرة الخلاص الفردي بالخلاص الجمعي كشكل وحيد للمستقبل. ثم تسقط التجربة سقوطها المدوي وتظهر في التوتر التاريخي بعدها صراعات جديدة تدور بين الرؤى الدينية والتطور العلمي، فتعود العدمية إلى الظهور كنزعة تسود عالمنا نتيجة الصراعات العنيفة.
كاتبة من العراق