داعش في باريس: تقليعة أوروبية لاستدعاء اليمين المتطرف

الجمعة 2015/12/11

في اقتفاء سيرورة الانتحاريين الذين نفّذوا عمليات الجمعة السوداء في باريس (13 تشرين الثاني/نوفمبر)، سيكون من المفيد رصد السيرة الشخصية لهم أكثر من رصد الحوافز والأسباب السياسية التي تقف وراء هذا الجنون. وفي مطالعة حكايات المنفّذين استنتاجٌ بأن العمل والقرار والتخطيط والتنفيذ محليٌّ يخرج من أحياء بروكسل وباريس، وقليلا ما يستعينُ بمباركة مباشرة من تنظيم أبو بكر البغدادي في الرقّة والموصل.

في علاقة المنفّذين بالمشهد الداعشي منطقٌ موضوعي استهلاكي. يمثّل داعش العلامةٓ التجارية الكبرى التي ينشدُّ لها الباحثون عن منتجاتها، ولا يهتم بها من لا يستهلكون ولن يستهلكوا أبداً بضاعة من هذا النوع. بمعنى آخر لا يعملُ تنظيم داعش على إقناع الخصوم والمحايدين فذلك ليس شأنه ولا جزءاً من همومه، بل هو يبيع بضاعته لهواة النوع.

هواة هذا النوع ليسوا بالضرورة آتين من تجارب التديّن والمساجد وحلقات التدريس الفقهي، بل أغلبهم -وهذا هو تماماً المطلوب- متخرّج من تجارب انحرافية ساقته إلى السجون أو علب الليل المشبوهة، أو مدمن على موبئات ينهى عنها الدين. هي إذن “راديكالية تتأسلم وليس العكس” على حدّ تعبير أوليفييه روا واحد من باحثي الجهادية المشهورين في فرنسا.

تروجُ في فرنسا مشاكل اجتماعية لصيقة بيوميات بلد متعدد الأعراق والقوميات، تتوزّع مكوّناته على طبقات اقتصادية وثقافات متباينة. في التعبيرات الماركسية التقليدية لتلك المعضلات ما يُنتجُ صراعاً طبقياً سبق أن تدفّقت الأدبيات اليسارية في شرحه والإسهاب في تبريره. من تلك الشرارات التي خرجت عن صراع الأجيال والطبقات والثقافات انتفخت الأحزاب والتيارات والجماعات والنقابات اليسارية بالتّواقين إلى ترياق طوباوي في مطالعات الإنسانويين وفي تعويذات يسار بيتي أو مستورد.

بيد أن أقصى علامات التورّم كانت تأخذ أشكال الانبهار بجماعات “المناضل” الانترناسيونالي كارلوس، أو في التصفيق لبادر ماينهوف الألمانية، أو التبرير للألوية الحمراء الفرنسية.

على قاعدة ذلك الجدل تنفجرُ ثورة أيار/مايو 1968، فيغادر الجنرال شارل ديغول ممهداً السُبل مذاك لمجيء اليسار “التقليدي” حاكماً بقيادة فرانسوا ميتران (1981).

في تأثرّ فرنسا بمتنوّريها الكلاسيكيين عشية الثورة الفرنسية، وفي تأثّر فرنسا بتجاربها الكولونيالية في العالم العربي (شمال أفريقيا خصوصاً)، تميّز الأداء الفرنسي إزاء العالم العربي إذا ما قورن برتابة ذلك الغربي المعروف. كان لشارل ديغول اليميني موقف ضد إسرائيل منذ حرب 1967 يتعارض مع موقف بيئاته الحليفة في العالم، وكان لفرانسوا ميتران اليساري موقف لصالح فلسطين في التجرؤ على استقبال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في باريس، كأول سابقة لدولة غربية في هذا الصدد. وفي المثاليْن اللذين نوردهما على سبيل المثال لا الحصر، نتساءل عما يتحرّك داخل فرنسا من ثورة الضواحي، سواء بالطبعة الشوارعية التي اندلعت قبل سنوات، أو بتلك الإرهابية التي يشهدها البلد بين الفينة والأخرى.

كان الغاضبون القدماء يطالبون بدولة عادلة تراعي المساواة على ما خرج من تشريعات ذلك البلد، التي قد تعتبر، في نواحي مكتسباتها الاجتماعية، الأكثر يسارية في العالم الغربي، فبماذا يطالب الغاضبون الجدد، وإلى ماذا يتطلعون غير استدراج العقل الجمعي الفرنسي إلى تطرّف مضاد بدأت تطلُ إرهاصاته في ما أفرزته الانتخابات المحلية الأسبوع الماضي؟

لا تعيشُ فرنسا انتفاضات الضواحي، بأشكالها الشَّغَبِيّة أو الإرهابية، بصفتها شأناً جُوّانيا من لبّ النسيج الفرنسي. حين اندلعت أعمال الشغب عام 2005، وصفها وزير الداخلية آنذاك نيكولا ساركوزي بأنها ثورة “حثالة”. استنكرت بعض القوى تصريحات الوزير، لكن كل الكتل السياسية، اليسارية قبل اليمينية، رفضت منح أي تغطية سياسية أو أيديولوجية تبريرية لأعمال الشغب، وراحت في تحليلها تقترب من رؤى ساركوزي بأنها ثورة “زعران”.

لا يبرئ جيل كيبيل، أحد الأكاديميين الفرنسيين الذين يعملون منذ عقود على فهم الظاهرة الجهادية، فرنسا من مغبة عجزها عن تحمّل مسؤولية تاريخها الاستعماري، محاولاً إيجاد مسوّغ تاريخي على فعل راهن، على ما يوحي المنفذون والمصفقون لهم. لكن تلك النظرة الاستنتاجية ليست حافزاً مباشراً معلناً من قبل المنفذين، على الرغم من أنهم جميعاً يتحدرون جميعاً من أصول مغاربية.

انشغل المخاض الاجتماعي في تاريخ فرنسا، حتى في طبعته “الرعاعية” (2005)، بالاستثمار في الداخل لإنتاج فوائد في الداخل، فيما عمليات الإرهاب، التي يراد لها أن تعبّر عن علّة مجتمعية فرنسية، لا يهمها داخل فرنسا بقدر ما يهمها قتل فرنسا. يكفي تأمل الأهداف التي قصدها الإرهابيون (ملعب كرة قدم، صالة عرض موسيقي، حانات ومقاه) للتدليل على مقت لما هو حياة وفرح في سبيل ما هو بؤس وعدم. قد يظهر ذلك أكثر في ردّ الفعل الفرنسي، المجتمعي قبل الرسمي، بالدفاع عن فرنسا وصون وجودها، من خلال التمسّك بما اكتسبته تلك الجمهورية ميدانياً من قيّم ترى في الديمقراطية الجمهورية والعلمانية والانفتاح والتسامح والتعدد علامات أساسية لأصل الوجود الفرنسي وراهنه.

ضمن هذا المنظور يهرعُ الفرنسيون لتبرئة الإسلام من إثم حفنة من المنحرفين (أوليفييه روا)، ويذهبون للإضاءة على الضحايا المسلمين للعمليات الإجرامية، كما للتنويه بنماذج من المسلمين الذين خاطروا بحياتهم لمنع تلك العمليات وردّها، ففي ذلك، دفاع عن الفكرة الفرنسية التي بات الدفاع عنها تمريناً معقّداً صعباً في المواسم الراهنة.

في ما خرج في الأسابيع الأخيرة من آراء صادرة عن متخصصين غربيين في شؤون الجماعات الجهادية ما يفيد أن “دواعش” فرنسا هم معضلة أوروبية، يجب أن يجري التعامل معها بأدوات أوروبية أمنية، كما يتم التعامل مع العصابات الإجرامية.

جرى الاهتمام بتحري تحركات الإرهابيين وشبكاتهم اللوجستية وكشف خيوط ارتباطاتهم (وأكثرها مرتبط بالعائلة والقرابة والصداقات وفق استنتاجات الباحث الأنثروبولوجي الأميركي سكوت أتران)، وقليلا ما اهتم المحققون بمنابع التسلّح، ذلك أن ما نُفّذ (سواء ضد جريدة “شارلي إيبدو” أو في الجمعة السوداء) لم يحتج إلى إمكانات عابرة للقارات على ما حصل في “11 سبتمبر”، بل لتلك البسيطة التي يستخدمها المهربون ولصوص المصارف.

بمعنى آخر لم يستنتج الخبراء الفرنسيون والغربيون أن سلسلة الأعمال الإرهابية التي ضربت فرنسا، والتي بالمناسبة قد تطال أهدافاً غربية أخرى، لا تمثّل حراكاً لمسلمي أوروبا (على منوال حراك السود في الولايات المتحدة مثلاً)، ولا تمثّل حرباً لإرهاب قادم من الخارج (كما ذكر فرانسوا هولاند الفرنسي)، ولا تمثّل تهديداً وجودياً (كما أفتى دافيد كاميرون البريطاني)، بل هي نتاج تورّم محلي يجدُ مسوّغاً لرواجه من خلال علامة تجارية دولية ذائعة الصيت (داعش).

تستهدفُ الحرب التي يسعى إليها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ضرب داعش في “مصانعه” العراقية السورية بصفته العلامة التجارية الكبرى التي يجري نحوها هواة النوع. وفي ضرب تلك الشركة متعددة الجنسيات وتقزيم حضورها الدولي، على ما جرى تماماً مع تنظيم القاعدة منذ مقتل زعيمه أسامة بن لادن، سعي لحرمان “هواة النوع” من استخدام سلع داعش، وربما دفعهم، إذا ما تعذّر ثنيهم عن هواية النوع، نحو استخدام سُبل تقليدية في دنيا الإجرام، على نحو تصبح مواجهتهم تقليدية بين دولة وخارجين عن القانون، أو بين مؤسسات حكومية وأعراض امتعاض اجتماعي عادي.

في ذلك التمرين محاولة لتجريد المسعى الغربي من أي صليبية مزعومة مقبلة في مواجهة حالات الانحراف والعنف والإجرام، كما تحرير ما هو بوليسي أمني من حساسية العلاقة مع الإسلام والمسلمين. بيد أن ذلك لن يحلّ أبداً معضلة الإرهاب، ذلك أن هواة النوع الذين وجدوا في داعش ملاذاً، سيجدون ملاذات أخرى ستختلف مضامينها وأشكالها وفق تقليعات الزمن المقبل.

لكن في الزمن الراهن، وحتى إشعار آخر، ستبتسم مارين لوبان زعيمة “الجبهة الوطنية” اليمينية المتطرفة في فرنسا، ذلك أن فلاحة الإرهاب الجهادي الفرنسي تقذف بالغلال إلى سلالها.

صحفي وكاتب سياسي لبناني

8