في الذكرى الـ48 لميلاد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

الاثنين 2015/12/07

كلما طلب مني أن أساهم بكتابة نص ينشر أو يقرأ في مناسبة من المناسبات إلاّ وأبديت تردّدا عفويا، ومن ثم أروم الاعتذار. وللاعتذار سببان: من جهة أولى حسابات الزّمن الذي لا يزيد ولا ينقص؛ ومن جهة ثانية حسابات “المزاج الإبداعي” الذي قد يأتي وقد لا يأتي. فالكتابة عمل إبداعي في الأوّل والأخير.

هذه المرّة، وجدت نفسي ألبي دعوة الكتابة باندفاع وبلا تردّد. فصبيحة يوم الأربعاء الماضي كنت ذاهبا لزيارة الطبيب عندما رنّ الهاتف. قبل النّقر قرأت على الشاشة باللغة الفرنسية، فهاتفي مفرنس، عبارة الأراضي الفلسطينية. جميل أنّ هاتفي “المفرنس” لم يكتف بالإشارة إلى غزّة، رغم أن المكالمة آتية من قطاع غزة بالذات، قطعة الأرض التي حلم بعض قادة إسرائيل باختفائها عن وجه البسيطة، وذلك ما يوشك أن يحققه غلاة الملّة بدعوى أن حفظ الدين أهم من حفظ الأرض.

تزاحم كل هذا في ذهني قبل أن أنقر على الزر الأخضر والذي ذكرني بحكاية الخط الأخضر (يا له من ازدحام عجيب). المكالمة من مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. يا إلهي، رفاق المرحوم جورج حبش. خلال لحظة خاطفة من الزمن، غمرتني كثافة عالية في المشاعر، الأمل والحنين والشجن والمخاض العسير وسنوات المجد التي عاشتها القضية الفلسطينية يوم كانت تسمى هكذا: الثورة الفلسطينية. هل سقط الاسم سهوا؟ ليست المصطلحات مجرد شكليات. ولا ندري في أي الظروف توارت كلمات ذات إستراتيجية تتخطى السياج الطائفي من قبيل الثورة والتحرير، واستبدلت بكلمة المقاومة التي أريد لها أن تكون حمالة أوجه؟

كل هذه الكثافة من التساؤلات التي ملأت ذهني في لحظة خاطفة جعلتني أتذكر أيضا كثافة غزة، ثاني أعلى كثافة سكانية في العالم بعد هونكونغ (يا له من ازدحام مهول في الكلمات والأشياء). كان الصوت القادم من هناك يحمل نبرة غزّوية دافئة، نبرة تتوسط بين أهل مصر وأهل الشام، أو هكذا تراءى لي. كان الصوت صوت المفكر الفلسطيني غازي الصوراني. قلت: كيف حال أهلنا في فلسطين؟ أجاب: إنهم بخير، إنهم بألف خير. إجابة مفكر يتجرع مرارة العيش داخل سجن مركب، سجن استيطان توراتي وسجن مقاومة ملتحية. كل هذه القدرة على التحمل في المنطقة الأشد وعورة، ونحن هنا أو هناك لا يفكر بعضنا في غير مغادرة بلده هربا من معارك أقل كلفة. صوت آخر تكلم معي في نفس الأثناء، القائد الجبهوي المعروف كايد الغول، كان صوته قويا يناسب صوت ناطق رسمي لقضية كبرى. لكن ما المناسبة؟ بعض الطلبات يكون لها مفعول سحري كأنها أوامر دينية.

وهكذا كان. فقد طلب مني أن أكتب نصا بمناسبة الذكرى الـ48 لتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. للأرقام أيضا مكرها، بل لعلها جزء لا يتجزأ من مكر التاريخ نفسه في بعض الأحيان. الرقم 48 هو أيضا رقم النكبة. قلت: نعم سأكتب. وسيكون النص عندكم. لكن عليّ أن أعترف الآن، بعد انتهاء المكالمة سألت نفسي على الفور: كيف يمكنني أن أكتب نصا بحجم الألم الممتد بين الرقم 48 والرقم 48، ألم الذاكرة وسنوات مجد المقاومة الفلسطينية؟

الكتابة فعل إبداعي، ومن حيث هي كذلك فإنها فعل تحريري أيضا. الإبداع جهد ضدّ الاجترار والتكرار. غير أن القضية الفلسطينية سرعان ما تضعنا في فخ الحنين حين نتذكر أمجاد الماضي القريب، وبالأحرى أمجاد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالذات. التنظيم الذي نفذ أكثر العمليات إيلاما لإسرائيل: معروف للكثيرين، ويجب أن يعرف آخرون، بأن أول تفجير بالحزام الناسف تم في قلب إسرائيل كان من تنفيذ الجبهة الشعبية، وأن الاغتيال الوحيد لأعلى مسؤول إسرائيلي (وزير السياحة رحبعام زئيفي) كان من تنفيذ الجبهة الشعبية ردّا على اغتيال إسرائيل لزعيمها مصطفى أبو علي؛ الجبهة الشعبية اختطفت أيضا أزيد من مئة طائرة لغاية الترويج الإعلامي للقضية الفلسطينية لكنها حرصت أيضا على عدم إسقاط أي طائرة، وحرصت على عدم تفجير أي طائرة قبل إخلائها بالكامل من المسافرين.

لكن، لعل ماركس هو القائل: لا يكرر التاريخ نفسه، وإن كرره فبطريقة هزيلة. هذا ما حدث بالتمام، كان خطف الطائرات إبداعا تفوقت فيه الجبهة الشعبية بامتياز، لغاية إثارة انتباه العالم دون الحاجة إلى قتل المسافرين الأبرياء، والذين كان الخاطفون يؤكدون لهم ضمان سلامتهم، لكن عندما حاولت الحركات الأصولية أن تكرر نفس الأسلوب فقد جعلت منه أداة لتصفية العشرات من الأبرياء بنحو عبثي ومجاني. غير أن الذاكرة المجيدة تصبح فخا كبيرا لا سيما حين تسوء الأحوال وتستشري الأهوال، إلا أننا لا يجب أن ننسى بأن معارك المستقبل تبدأ بمعارك الذاكرة، وقد نجح البعض في محو ذاكرة أمجاد حركات التحرر بدعوى أنه سيقدم عرضا أفضل، لكنه لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. إلا أن السؤال يبقى واردا، كيف لا يصبح الاحتفاء بالذاكرة فخا يكبل الإرادة؟ هناك حل واحد لهذه المعادلة: استلهام الذاكرة لأجل الولادة الثانية. كل من ولد مرة يحتاج إلى ولادة ثانية، وكل من ولد مرة ثانية يحتاج إلى ولادة ثالثة، ولا يموت في الأخير إلا من لا يقوى على الولادة من جديد. يصدق هذا على الأفراد ويصدق على التنظيمات.

قلت، الكتابة فعل تحرّري، والرّأي الآن، كيف أجعل من الكتابة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مناسبة للفعل التحرّري والانتقال من فخ الحنين للزمن الجميل إلى فرصة لاستشراف أفق إعادة ولادة ثانية؟ لا أستطيع أن أنكر شيئا من هذا: على علاتها التي هي ارتدادات لردتنا، تبقى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الرحم الأنسب لأجل إعادة ولادة ثانية للقضية. فعلا، قد يكون المخاض طويلا، لكن يأتي الأمل في الأخير عندما ندرك بأننا أمام آخر فرصة للأمل.

كانت قناعتي دائما أن اعتماد المقاومة على الدين، بدعوى أن إسرائيل نفسها دولة قائمة على الدين، وأن رأس الدين لا يقطعه غير سيف الدين، قد يمنح بعض القوة “الانفعالية” لبعض الوقت، لكنه لا يمنحنا أي امتياز في الأخير. لماذا؟ لأنّ مواجهة حجج دينية تقوم على الأسفار والمزامير والوصايا والهيكل ومدافن الأنبياء والمئات من النصوص المقدسة، بحجج دينية تقوم على الإسراء وأولى القبلتين لا تمنحنا، ولن تمنحنا، أي امتياز قانوني أو تشريعي أو إنساني، لكنها تحرمنا في المقابل من حججنا المقنعة وتفقدنا القدرة على التركيز على الأبعاد الحقوقية الواضحة: حق العودة. إنّ إضفاء البعد الديني على المقاومة يعني إضفاء الطابع الطائفي أيضا. هذا ما حدث في لبنان، وحدث أيضا داخل ما كان يسمّى بالحراك السوري.

الجبهة الشعبية التي نفذت العمليات الأكثر نوعية والأشد إيلاما لإسرائيل لم تحشر نفسها في الزاوية الطائفية الضيقة، بل أعطت مرارا ما يكفي من الأدلة على قدرتها على تدبير الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية بعيدا عن لغة المزايدة والتنطع. لربّما هي روح جورج حبش الذي ليس عبثا أن أطلق عليه ياسر عرفات نفسه، وهو خصمه اللدود، لقب الحكيم، حكيم الثورة.

ما الذي تمثله الكتابة عن هذه الرّوح التي نرقب عودتها قريبا بعد أن بلغ التنطع بابه المسدود؟ لعلها روح الحكمة والموقف والشهامة والنزاهة، والحرص على حياة الأبرياء وإنقاذ القضية من الانغلاق الطائفي، والقدرة على مخاطبة الرأي العام الدولي واحترام الحريات الفردية والمساواة الكاملة بين الجنسين، وفوق كل ذلك الفصل الأخلاقي التام بين المقاومة والجريمة. وقد صدق إدوارد سعيد عندما أوصى الضحية بتحقيق التفوق الأخلاقي على الجلاد.

الكتابة فعل إبداعيّ، ولأنها كذلك، كما قلت، فإنها فعل تحرّري، ومن حيث هي كذلك، كما أضيف، فإنها فعل استشرافي. فهل هناك من ضوء في النفق قد يبعث في اليدين حرارة الكتابة عن حرقة أطول ثورة مغدورة في التاريخ؟ ربما.. وربّما يدلّ عليه ذلك الصوت الجبهوي القادم من قلب غزة هادئا واثقا في إجابته: الشعب الفلسطيني بخير، بألف خير. صدق من قال: لأنهم لم يعرفوا بأن ما يفعلونه مستحيل، فإنهم يفعلونه.. وبالتأكيد، بفعل قوة الذاكرة، وحجم الأمل، وتطلع الجبهة إلى نشأة مستأنفة، ولادة ثانية، وانبعاث متجدد للفكر والتنظيم والقضية الفلسطينية، فلا شك أن الشعب الفلسطيني سيكون بخير. غير أن هناك مسألة أخيرة: في حركة التاريخ هناك دائما شيء اسمه القدرة على تعديل المسار. تلك حكمة النهر الجارف. وكل عام ورفاق الحكيم بخير.

كاتب مغربي

9