جبر علوان فنان أممي تمرد على القواعد فامتلك موسيقى الألوان

السبت 2015/11/28
جبر علوان بابلي مخضرم حمل ناره المقدسة من بغداد إلى روما

باريس- عراقي ـ إيطالي، فنان أممي غجري، مزيج من أشخاص ومشاهد وحضارات، شَغُف بالجمال ونثر ألوانه فأنتجت أطياف نساء وموسيقى ورقصا وجنونا، رَسَم من مخزونه الشرقي وحياته الغربية فداعب الروح والقلب، تسكّع سنوات طويلة في ساحات روما يرسم العابرين والسياح قبل أن تفتح له العالمية أبوابها.

عاشق للعراق ومُتيّم بدمشق، أما روما فهي تلك الجميلة التي يستنشقها، أحب هذه المدن وأحبته فمنحته أسرارها، ثم طاف بلوحاته كل أركان الأرض لكن قلبه ظل مُعلّقاً هناك.. في بابل.

جبر علوان، أو “جبر البابلي” كما يحلو لأصدقائه مناداته، رسام عراقي ـ عالمي، حمل من العراق ناره المقدّسة وهاجر إلى روما، مدينة الإبداع والحلم، مسقط رأس رفائيللو وميكائيل أنجلو، وألبرتو مورافيا، وفلليني وبازوليني وبانيوني، وكلهم أيقونات أنواع مختلفة من الفنون التي سحرته، أرض الفن وأساتذته وأساطينه، رفض تقليدهم وصنع خصوصيته فنافسهم في عقر دارهم وتفوّق.

فنان تشكيلي متميز، كثير الإنتاج، تردد اسمه كثيراً في السنوات الأخيرة وتكرس فناناً له حضوره المختلف، واستطاع على مدى أربعين عاماً أن يحجز لنفسه مكاناً خاصاً بين التشكيليين العرب، وعلى الرغم من عيشه أكثر من نصف حياته في روما إلا أن حضوره لم يغب لحظة عن الحركة التشكيلية العربية.

ولد جبر علوان ببابل في العراق عام 1948، أحبّ الرسم وفاز في التاسعة من عمره بجائزة صغيرة في المدرسة، فشجّعه كل أساتذته هناك على مواصلة هذه الهواية، وهذا ما حصل، حيث التحق بمعهد الفنون الجميلة ببغداد وتخرّج منه عام 1970، ثم قرّر أن يتابع رحلته في روما، جاءها وحيداً، دون مال أو منحة دراسية أو تخطيط مُسبق، ورفض مساعدة أهله، فرسم الناس في الشوارع ليحصل على لقمة عيشه ودرس في نفس الوقت، واكتشف المجتمع من خلال بشره ومتاحفه.

فن جبر علوان يرتبط بشكل وثيق بالمرأة، فهي المحرك لروحه على اختلاف أدوارها في الحياة، وصاحبة البطولة المطلقة في لوحاته. نساؤه حالة وسط بين التجريد والتصوير، ممشوقات مرهفات ناعمات، شرقيات وغربيات

الهجرة إلى الحلم

تخرج في كلية الفنون بروما متخصصاً في النحت، أواسط السبعينات، ثم في تخصص الرسم بعدها بثلاث سنوات، وبعد تخرجه تخلى تماماً عن أيّ اتجاه أكاديمي أو مدرسي تعلمه وأعاد صياغة ذاته، وقرأ الحالة الجماليّة عند الإنسان، حالة الوحدة والتفكير، وقدّم لوحات تتحدّث عن الإنسان القلق الحالم الوحيد المحب للحياة والخائف منها، حمولات لونية صاخبة، راقصات وعازفات ورواد مقاه، والكثير من الغواية والخيال.

ولأنهم شعروا أنه استثنائي ومختلف، حرص الإيطاليون على تأمين محترف خاص له في وسط روما، سرعان ما تحوّل إلى نقطة علام، وأصبح مركزاً للفنانين العرب والأوربيين، ومقراً ومستقراً لأصدقاء من كل أصقاع الأرض، مركز ثقافي تُقام فيه أحياناً ندوات لكتّاب وفنانين ومثقفين عرب، وكان ينتهز الفرصة بين الحين والآخر ليصنع في ركن من أركانه طبقاً من المأكولات العراقية الأكثر شهرة وصعوبة لأصدقائه المقربين.

استطاع جمع مدارس عالمية مختلفة، من تعبيرية وانطباعية وتجريد وتشخيص وتشبيه، ومزج الواقع بالفانتازيا، واحتفى باللون والموضوع معاً، بالشخص والمكان، احتفى بالزقاق والمقهى والمسرح، وبالأعناق النضرة للنساء، والأجسام المغناجة التي ترتدي فساتين مغرية وترقص على أنغام غجرية.

أقام أكثر من مائة من المعارض الفردية، في كل أصقاع الأرض، من طوكيو إلى سانتياغو، ومن روما إلى دمشق، فبغداد وبيروت وأبو ظبي والقاهرة والكثير من العواصم الأوروبية، وكان أول فنان من أصول أجنبية تُكرّمه روما وتمنحه عام 1985 جائزة “أفضل فنان” التي سبق أن مُنحت لفلليني.

على مدى أربعة عقود كان من بين أكثر الفنانين العرب إنتاجاً، وأكثرهم التصاقاً بالعالمية، ولم تنقطع معارضه، واقتنت أعماله متاحف شتى، ونادراً ما أقام معرضاً وبقيت لوحة واحدة لم تجد لها عاشقاً يقتنيها، وبات يكفي أن يضع إمضاءه على ورقة بيضاء لتصبح ذات قيمة.

جبر علوان مزج في أعماله الواقع بالفانتازيا

نساء وموسيقى

يرتبط فن جبر بشكل وثيق بالمرأة، فهي المحرك لروحه على اختلاف أدوارها في الحياة، وصاحبة البطولة المطلقة في لوحاته. نساؤه حالة وسط بين التجريد والتصوير، ممشوقات مرهفات ناعمات، شرقيات وغربيات، وتتجلى كل أنواع النساء في رسوماته، حنونات إلى حد الألم، وقلقات إلى حد الجنون، وغارقات في عتمة روحهن، تتواجدن في مركز اللون وتحيط بهن خلفيات داكنة، تعكس الحالة النفسية لهن ولنا.

تُحب نساء جبر الرقص والموسيقى، شرب القهوة والانتظار، التأمل والوحدة، المشي بخيلاء إلى اللانهاية، ويمتلكن من الجاذبية ما لا يُقاوم، ولا يدعن أحداً يتحدث بالنيابة عنهن، يرصدن كل العيون ويكتمن أسرارهن، فيما تتعلق بهنّ العيون بنهم لمعرفة أصلهن وفصلهن.

تصعب معرفة من أين يأتي بنساء لوحاته، حوريات من البحر، أم كلمات من قاموس العِشق، أم من أبجدية بابل وآشور، فلا نجد صورة واضحة لامرأة في لوحاته لنستدل من هي، وتلعب الأجساد والثياب غالباً دور المترجم للحالة التي تعيشها كل واحدة منهن، فنساؤه حالات مختلفة وألوان غير تقليدية، وكل واحدة تستمد وجودها من اللون الذي يختاره لها.

تعزف النساء في لوحاته الموسيقى وتنثرن الفرح في كل مكان، وإن أصغينا سنسمع دون شك اللحن الذي يرقصن عليه، أنغام الفالس والتانغو والقدود الشرقية، يثنين أجسادهن الطيّعة ويطرن كفراشات بِحملٍ كبير من السعادة، يجلسن على المقاهي ينتظرن شخصا ما وفي الغالب لا ينتظرن أحدا، ويتلاشى معهن ضجيج الشوارع والحياة، ويصمت العالم أمام لحظة انتظارهن.

يرى علوان أن المرأة هي وحدها القادرة في خضم تناقضات الوجود على منح الصفاء الذهني حتى في عزّ لحظاتها الأكثر كآبة، هي اللون في انسيابه، هي الانتظار والحلم وسطوة الواقع، ويقول “احترم المرأة، وأجد أنها كائن كوكبي لم يكتشفه الرجل بعد”.

ألوانه لا تُخطئها العين، تُغرّد مع الموسيقى ومع الراقصين في خشبات المسارح، تتدفق كشلاّل الماء الصافي، أزرق وأصفر وأحمر، وبينها أخضر وأسود، تتسرب بينها ألوان غير مرئية، لتغيب كل الوجوه والملامح خلف ضباب رمادي مزركش يُفجّر الكثير من الأسئلة.

يُعدّ علوان أحد أكثر الفنانين العرب جرأة في استخدام اللون وفي تطويعه للموضوعات والأجواء وفق ما يقتضيه اللون لا العكس، لوى ذراع الألوان وتحدّى مقاومتها، فأنتج سيلاً من الألوان تتراكض وتتزاحم بدفق أخّاذ.

تبدو ألوانه خلاصة لكل الألوان المنثورة من الطبيعة، اختارها بدقة لينثرها على لوحاته البانورامية بترف لوني وإيقاعات تضجّ بالحياة، ومن يرغب في فهم لوحاته واكتشاف معانيها عليه أن يُحسن قراءة الألوان، فالألوان لا تتشكل بمعناها الظاهري بل بوجودها الوظيفي، ومع أن الكثير من الرسومات توحي ببهجة الألوان وترفها، ولكن اختلاف الاستخدام اللوني يمنح شغله أبعاداً متنوعة.

علوان لوى ذراع الألوان وتحدى مقاومتها، فأنتج سيلا من الألوان تتراكض وتتزاحم بدفق أخاذ، فتبدو ألوانه خلاصة لكل الألوان المنثورة من الطبيعة

هرب من فلسفة الجمال وابتعد عن الأصول الأولى له، وخالف النظريات التي وصفت الحالة النفسية لكل لون، وجدد وأبدع في نظريته، وعلى عكس المألوف، الأخضر ليس رمزاً للخصوبة بل تعبير عن حالة من الترقب والخوف أو ربما العنف المضمر، والأحمر ليس إشارة للدم وليس هو بالضرورة رمزاً للمجون، ولا الأسود تعبير عن الحزن أو الظلمة، كل شيء مختلف عنده، كل لون يؤول بحسب الموقف وحسب المرأة التي تعيش داخل اللون أو حسب المكان، فهو يُطوّع اللون للموضوع وينسج صورة مختلطة بين الشكل وديناميكية اللون. يقول داريو ميكاكي أحد أبرز النقاد الإيطاليين “يمتلك جبر موسيقى الألوان، ويعرف تنظيمها وتركيبها، وألوانه خلاصة للذاكرة والرغبة”.

جبر والجواهري ومنيف

ثمة علاقات متشابكة وواسعة بين علوان والكثير من المسرحيين والسينمائيين والروائيين والمثقفين العرب، وصداقات لا تنتهي، بدءاً من الجواهري الذي رسم له لوحة خالدة تُعتبر أثراً فريداً يُكرّم بها أيقونة الشعر العراقي الحديث، تلك اللوحة التي أصرّ الجواهري أن تتصدر غرفة إقامته في منزله بدمشق، وافتخر بها وذكّر كل من يزوره بضرورة تأملها حتى أيامه الأخيرة.

صديقه الروائي الراحل عبدالرحمن منيف تناول تجربته في كتاب “موسيقى الألوان”، أكّد خلالها على أن الرحلة مع ألوان جبر بمقدار ما تُولِّد متعة بصرية، فإنها تطرح أسئلة بالغة الأهمية، لأنها تجعلنا نعيد النظر بالألوان التي حولنا، أو تجعلنا نراها بشكل مختلف عمّا تعودنا رؤيتها، والفنان الذي يستطيع أن يعوّد الناس على رؤية الأشياء بطريقة مختلفة عما تعودوا عليه، إذ يجعلهم يرون الألوان جديدة، يكون فناناً أضاف لأبصارنا بصيرة جديدة، وهذا أقصى ما يحلم به فنان، هذا الدفق بالألوان، هذه الخصوبة المتجددة في ألوان جبر، وهذه الطفولة الدائمة في الرؤية والاكتشاف، يجعلنا نقول: لقد استطاع هذا الفنان مساعدتنا على أن نرى الأشكال والألوان بطريقة أجمل، وجعلنا نتساءل.

ألوان جبر علوان لا تُخطئها العين، تُغرّد مع الموسيقى ومع الراقصين

صديقه الآخر المخرج السينمائي قيس الزبيدي عمل فيلماً تسجيلياً عنه بعنوان “ألوان ـ 2009” بحث فيه عن جذور اللون الذي يستخدمه، أهو من دمشق (المدينة الشرقية) التي أقام فيها الكثير من الوقت أم من روما (المدينة الغربية) التي يقيم فيها منذ أربعة عقود، أم من الذاكرة من بلده الأم العراق.

يأس من السياسة

كان من المعارضين للحرب في العراق وللنظام في آن واحد، انتمى إلى بعض القوى السياسية الإيطالية، وعمل مع مجموعة من العراقيين ليوضّح للإيطاليين قساوة النظام العراقي، فدفع الثمن، وحُرِم من دخول العراق، وأسقطت عنه الجنسية بسبب موقفه المعارض، فأصبح وطنه لوحته، وتعرض أهله في العراق لمضايقات، وأغلقت أبواب العودة في وجهه، لكنه لم يقطع تواصله مع جذوره هناك، وظل مسكوناً بالحنين والوجد والأرق والشوق، لطفولته ورفاق صباه.

قساوة الحروب وكارثيتها جعلته لا يعير السياسة كثير اهتمام، لأنه يئس منها، ويئس من الواقع العربي المرير ومن الواقع السياسي والأمني لبلده العراق، وهو بالعموم لا يرى أن مهمة الفن المشاركة بالثورات العربية، فالفن حسب رأيه “يرسم حالة لا علاقة لها بالربيع العربي أو الإحباطات العربية، الفن ينظر إلى الإنسان بعمق، فلا يرسمه في الثورة وإنما يرسم حالته فيها”.

مازال جبر البابلي يحلم أن تصبح بغداد كروما، ليهدي العديد من لوحاته للمتحف العراقي، وهو يؤجل هذا المشروع حتى يستعيد العراق حياته الطبيعية، لكنّه يخشى إن عاد إليها أن لا يجد ذكرياته وأن لا يجد نفس الأزقة والبساتين، ويخشى أكثر ما يخشى أن لا يجد نفس الإنسان العراقي الذي عرفه وأحبّه وانتمى له.

14