هنا الآن أو خط الرجعة الأخير
لا نستطيع مواجهة الخرافة بخرافة مضادة، وإنما بترسيخ قيم العلم والمعرفة؛ لا يمكننا التصدي للتهييج الطائفي بتهييج طائفي مضاد، وإنما بترسيخ قيم المواطنة ودولة الحق والقانون؛ لا يمكننا أن نجابه الخداع بخداع مضاد، وإنما بترسيخ قيم الوضوح والصدق والشفافية. بمعنى آخر، لا يمكننا أن ندمّر أنفسنا بدعوى ألا يدمرنا الآخرون. المعركة الحقيقية الآن أصبحت معركة بناء (بناء الذات أولا) والإعمار (إعمار الذات أولا) والإصلاح (إصلاح الذات أولا).
الشيء المؤكد من الآن، بل وقبل الآن، أن الاقتصاد القائم على المعرفة هو مدخلنا الرئيس إلى المستقبل. ومن ثمة ستكون المادة الأولية في السنوات القادمة هي المادة الرمادية (الدماغ). وعلينا أن ننسى كل الشعارات التهييجية من قبيل أعداء الأمة وأعداء الإسلام وأعداء المذهب، وعلى افتراض أننا نواجه شيئا من ذلك، فلنلتفت ولو لساعة واحدة إلى ما يسمى بالجبهة الداخلية، لنسائل أنفسنا: هل فعلا كل شيء لدينا على ما يرام؟ مفهوم الجبهة الداخلية واسع عريض يمتد من المدرسة إلى المقاولة، ومن المختبر إلى الثكنة، ومن المنتزه إلى الإدارة.
ولعلنا نعرف ونعترف بأن الكثير من الورشات الإصلاحية يصعب فتحها بمنأى عن الغوغائية المتنامية، لكننا نعرف أيضا، أن الإنسان الذي يخشى غريزيا من مجاهل التغيير، وهذا ما تستثمره كل القوى المحافظة، سرعان ما يتكيّف مع التغيير حين يصبح سيرورة عملية لا مجرد أقوال. أمامنا الآن محاذير ذات بعد إستراتيجي واضح، من بينها ما يلي: إن “الشرق الأوسط” يعدّ من أكثر مناطق العالم تنوعا بالمعنى الديني والطائفي، ولذلك سيكون من باب التغابي الاعتقاد بأن التهييج الطائفي قد يحل مشاكل “الشرق الأوسط الكبير”، وسيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن الرد على خطاب طائفي معين يمكن أن يتم من خلال خطاب طائفي مضاد. فذاك هو الفخ الذي وقعنا فيه مرارا. لأن كل تهييج طائفي يعني تعريض الجبهة الداخلية لخطر الفتنة والانهيار. والسؤال، هل الروابط القائمة على العشيرة والغنيمة والعقيدة ما زالت قادرة على تمتين الجبهة الداخلية في عصر الدولة الوطنية، بل وفي عصر ما بعد الدولة الوطنية؟
لعل من أهم سمات هذا “الشرق الأوسط”، والذي هو المنطقة الأشد تعقيدا في العالم، أن العامل الديني كان، ولا يزال، محركا حاسما في الحروب والصراعات. وهذا لا يبعث على الاستغراب طالما يتعلق الأمر بأرض الديانات والأنبياء والرسل. ما يعني أن الإصلاح الديني سيبقى مدخلا إلى إصلاح البنية الذهنية للمجتمعات الإسلامية.
ظهرت البوادر الأولى للإصلاح الديني في المجتمعات الإسلامية مع ظهور الحركة السلفية التقليدية، سلفية الزّمن الجميل، أيام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وعلال الفاسي وغيرهم. ثم تبلورت مع جيل الطاهر بن عاشور والطاهر حداد وغيرهما. كانت تلك البوادر واعدة وكان من الممكن احتسابها ضمن آمال المرحلة. غير أنّ التاريخ لا يسير دائما في منحى تصاعدي، بل قد يحدث العكس. والجدير بالملاحظة أنّ المنحدر الفاصل بين السلفية التقليدية والسلفية الجهادية انتهى إلى إتلاف كل بوادر الإصلاح الديني، فامّحى أثرها وزال ذكرها.
أثناء هذا النكوص استبدلت العديد من التيارات معركة البناء الحضاري بمعركة تغيير السلطة، وأحلّت تيارات كثيرة شعار العودة إلى الدين محل مطلب تجديد الدين، وركّزت تيارات أخرى على الإصلاح السياسي وحتى مسائل الإصلاح الزراعي على حساب مسائل الإصلاح الديني. بل تكالبت على الإصلاح الديني كافة التيارات الرئيسية بكل خلفياتها المتعارضة، وفرضت عليه نوعا من الحظر العملي الذي استغرق عقودا طويلة قبل أن يستنفرنا في الأخير على هدير الفتن. ويمكن أن نعدّ تلك التيارات في ثلاث:
أولا، فصائل الإسلام السياسي بكل ألوانها وأطيافها، والتي زايدت على الجميع بشعار “الإسلام هو الحل”، فاعتبرت الإسلام محصورا في جانب من تراثه وجزء من موروثه، محذوفا منه كل التراث الفلسفي والكلامي والأدبي والشعري والصوفي والموسيقي، ومحصورا في بضع صفحات، حتى قراءتها ليست ضرورية، هو المرجع الكامل والمكتمل للأمة، بحيث لا يعتريه نقص ولا بطلان. واستغلت انقطاع الذاكرة التاريخية لكي تعيد تأثيث خيال جديد للشعوب، بموجبه يبدو القرن الأول للإسلام أعظم القرون، مع حجب عشرات الحروب الأهلية التي قُتل فيها آلاف الصحابة والتابعين على يد صحابة وتابعين، من موقعة الجمل والفتنة الكبرى، وحرب صفين وموقعة النّهروان وحصار الكعبة ومأساة كربلاء، إلخ، أو اعتبارها مجرّد نكسات بسيطة جدا وسط حضارة كان المسلم لا يلقى أخاه المسلم إلا باسما مستكينا، يشع من وجهه نور الرحمة والغفران، فهو راهب حليم أمام “الأخيار” فارس عظيم أمام “الأشرار”.
وعلى افتراض وجود بعض الفتن، وهذا ما ننكره!، فالأحوط لنا أن نكف ألسنتنا عنها ولا نخوض فيها بعد أن كفانا الله من شرها. وبالجملة لا يحتاج هذا الإسلام الموروث إلى أي إصلاح. بل إنه الأداة الوحيدة لإصلاح سائر المجالات الأخرى. ولا يعني تجديد الدين سوى بعثه كما كان في القدم، ولا يعني الاجتهاد فيه سوى تطبيقه كما كان في العصور الأولى. بهذا المعنى، نجح الإسلام السياسي في إجهاض بوادر الإصلاح الديني. لكن ليس الإسلام السياسي وحده.
ثانيا، إذا استثنينا بعض التجارب النادرة، لا سيما في السودان، لم يكن الإصلاح الديني ضمن جدول أعمال اليسار. والمحصلة أن معظم فصائل اليسار توزّعت إلى موقفيْن اخترقا معظم التيارات اليسارية في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي، وفي المجتمعات الغربية: موقف أول أهمل المسألة الدينية جملة وتفصيلا، واعتبر أن كل المشاكل الدينية ستعرف طريقها إلى الحل بعد انتهاء المشاكل الاجتماعية، وبعد القضاء على الفقر والبطالة والتهميش، طالما أن الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الناس وليس العكس، وطالما أن العقل موعود بالانتصار، وأن العلم سينتصر آجلا أم عاجلا؛ وموقف ثان حاول العمل على احتواء وإعادة توجيه حركات الاحتجاج الديني كطاقة ثورية ضدّ الإمبريالية والصهيونية والأنظمة الرجعية، وهذا هو المعسكر الذي يرى اليوم في إيران وحزب الله حلفاء في مناهضة الإمبريالية، بل لعله راهن أحيانا، ولا يزال، على الحركات التكفيرية لأجل احتوائها وإعادة توجيهها ثوريا، وهو الرهان الذي ركبه اليساريون الإيرانيون الذين تحالفوا مع الثورة الخمينية عام 1979، ويحاول أن يركبه آخرون في مجتمعات أخرى. ودائما النتيجة معروفة.
ثالثا، التيار الرّسمي للدّول العربية والذي تذرّع بخصوصية الإسلام المحلي، وبالحاجة إلى تحصين المذهب المحلي كملاذ للأمن الروحي، وذلك على خلفية أن “الشر” لا يأتي إلا من الخارج. ما يعني في النهاية إمكانية تفادي متطلبات إصلاح الخطاب الديني.
واليوم، فإنّ مظاهر الغلو والتكفير، التي لا تستثني وطنا ولا تدع بلدا آمنا، تضع الجميع أمام راهنية الإصلاح الديني، لغاية إزالة الألغام الفتنوية المزروعة داخل حقل الخطاب الديني السائد. والأمل أن ندرك بأننا في هذا المنحدر التراجعي قد وصلنا إلى خط الرجعة الأخير.
كاتب مغربي