وداعا للبكائيات
كتب الكثير وقيل أكثر حول روح ومنسوب الرفض الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي، وتعميقه الممنهج للشعور العميق لدى الفلسطينيين بالظلم التاريخي الذي حلّ بهم منذ استهداف فلسطين لتكون وطنا قوميا لليهود في ظل احتضان دولي تام، وخاصة إبان الاستعمار البريطاني لفلسطين، ومرورا بالنكبة وما واكبها وتلاها من تشريد وحرمان وجهد لإنكار حتى حقيقة الوجود الفلسطيني وارتباط الفلسطينيين بأرض آبائهم وأجدادهم تاريخيا ودينيا وثقافيا.
وأذكى هذا الشعور بالظلم الإسناد منقطع النظير من قبل معظم القوى المؤثرة دوليا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لإسرائيل حتى بعد احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وحتى في إطار الرعاية الدولية لما اصطلح على تسميته بعملية السلام، في الوقت الذي كان فيه من الضرورة بمكان إدارة هذه الرعاية على نحو يستهدف تصويب الاختلال في ميزان القوى بين القوة المحتلة، والشعب الواقع تحت الاحتلال.
على خلفية هذا الاستعراض السريع لتطور مكنون الغضب الفلسطيني، ومع الأخذ في الاعتبار طبيعة رد الفعل الشعبي على ذلك، لا غرابة في ميل البعض، وإن بقدر من التردد، لاعتبار حالة الغليان الحالية، والتي بدأت في القدس منذ جريمة حرق الفتى محمد أبو خضير في تموز 2014 وامتدت في أعقاب تصاعد وتيرتها منذ مطلع الشهر الحالي، انتفاضة حقيقية.
ومع التفهم لدواعي هذا التردد أو حتى ميل البعض الآخر لاعتبار أن ما يجري لا يمتلك بعد من المقومات أو السمات ما يكفي لوصفه بانتفاضة، إلا أن السياق التاريخي للأمور يرجح اعتبارها بالفعل كذلك، إن لم يكن لشيء فلكونها ليست سوى حلقة في سلسلة شبه متصلة من الاحتجاجات والإضرابات وحتى الثورات الفلسطينية المتعاقبة على مدار زهاء قرن من الزمن. صحيح أنه لم تتوفر للانتفاضة الثالثة بعد حالة من الإسناد والمشاركة المجتمعية كما حصل إبان الانتفاضة الأولى، وهذا أمر بالغ الأهمية، وأنها لم تأخذ الطابع العسكري الذي طغى على فعاليات الانتفاضة الثانية، إلا أن فيها الكثير مما يُذكِّر بجوهر سابقتيها.
ينبغي الإحجام عن تحميل الانتفاضة الحالية ما لا طاقة لها به، سواء بالترويج لإمكانيتها على تحقيق أهداف غير واقعية على المدى القصير أو من خلال الدفع في اتجاه عسكرتها
وتنسحب المقاربة هذه أيضا، بطبيعة الحال على الحراك الشعبي الذي انطلق في بلعين في بداية عام 2005 وامتد ليشمل العديد من مناطق التماس والمواجهة مع مشروع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي بكافة أشكاله ومكوّناته، وغير ذلك الكثير من أوجه الرفض الفلسطيني للخنوع، بما انعكس في روح بذلٍ وكفاح وتضحية مستلهمة من ملحمة الاستشهاد لعطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي وسلفهم وتابعيهم ليومنا هذا من شهداء فلسطين، ومن عذابات الأسر والإبعاد والتشريد في مخيمات اللجوء والمنافي، وغير ذلك من صنوف والاضطهاد التي انسابت في الوعي الفردي والجمعي لجيل بعد آخر وصولا إلى جيل اليوم، جيل ما بعد “أوسلو”، من فتية فلسطين الذين أضاؤوا شعلة الانتفاضة الثالثة.
فمَن من هؤلاء الفتيات والفتيان من ليس على صلة مع واحد أو أكثر من أوجه النضال والمعاناة التي مارسها وعايشها الفلسطينيون، والتي في مجملها تمثل المرتكزات والأبعاد القومية للقضية الفلسطينية إما بشكل مباشر أو من خلال حكايات الأجداد والجدات؟
ومن منهم ليس نتاج حقبة شهدت تحولات مجتمعية وثقافية جارفة اختلطت فيها عناصر الجاذبية الهائلة لبريق العودة إلى الأصول، وخاصة في ظل الإحباط الناجم عن فشل الأيديولوجيات التي سادت في فلسطين والعالم العربي خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، مع المظاهر المختلفة لثورة المعلوماتية التي وضعتهم على اتصال مباشر مع أقرانهم في أصقاع المعمورة كافة وبما بعث فيهم الشعور بأن لهم من الملكة والقدرة ما للآخرين، ولكن دون إمكانية التعبير عن ذلك في وجه القدرة الهائلة للوضع القائم على مقاومة التغيير؟
نعم، فلنقل إنها الانتفاضة الثالثة، وإن كان هنالك تباين في تشخيص ماهية التعاظم في منسوب الغضب الفلسطيني في هذه الأيام، فليس هنالك الكثير من التباين فيما يتصل بالأمل، إن لم يكن بالقناعة، بإمكانية هذه الانتفاضة إحداث تغيير إيجابي على مجريات الأمور في فلسطين، ليس فقط بشكل مباشر، وإنما أيضا من خلال إثارة الاهتمام مجددا بالقضية الفلسطينية على الصعيدين الإقليمي والدولي المتخمين بالانشغال بما آلت إليه الأمور في أعقاب الربيع العربي وما أسهمت به التداعيات المتصلة بذلك في تشكيل حالة غير مسبوقة من العنف والتطرف وعدم الاستقرار السياسي والأمني وحتى المجتمعي في العديد من دول المنطقة.
وكذلك، إن كانت هنالك كوابح متصلة بالتخوف الطبيعي من المجهول أو التوجس من خسارة البعض للمنافع والمزايا المرتبطة بالوضع القائم، بما يبعث على التردد في الرهان على الانتفاضة أو الانخراط في الإسناد المجتمعي لها، فهنالك الكثير من القنوط من الوضع القائم وتعاظم في الشعور بعدم الرضا إزاء توفر ما يكفي من المنافع والفرص وعدالة توزيع ما هو متاح منها في ظل الاحتلال والانقسام وضعف عام في الأداء.
وهنالك، وربما ما هو أهم، تلاش في قدرة النظام السياسي الفلسطيني على تقديم إجابات مقنعة للجمهور، وخاصة لفئة الشباب، في إطار فكر سياسي متكامل. وعليه، وكمحصلة نهائية، من الواضح أن هنالك شعورا واسعا بأهمية توفير الظروف المواتية لاستدامة الانتفاضة الحالية وتعظيم قدرتها على تحقيق المزيد من التأثير الإيجابي. والسؤال يكمن بطبيعة الحال في كيفية تحقيق ذلك؟
كمدخل للنقاش حول هذه المسألة الجوهرية، ربما يكون من المفيد البدء بتناول ما ينبغي تجنبه. أولا من المستحسن التوقف والإحجام عن محاولة قولبة الانتفاضة الحالية بما يحشرها في زاوية متطلبات الانسجام مع تصور مسبق لدى الأوساط القيادية السياسية للتماشي مع رؤية هذه الأوساط لما ينبغي أن تكون عليه الانتفاضة لجهة الأهداف والوسائل.
فمن جهة، لا أعتقد أن هنالك رؤية موحدة، أو ما يكفي من الوضوح، لدى القيادات السياسية حول هذه المسألة، الأمر الذي قد يؤدي، في حال الإصرار على إسقاط القولبة الفوقية على واقع الانتفاضة، إلى التجاذب والتشرذم، وربما إلى الانتقاص من مكانة الانتفاضة وواقعها كعنوان نضالي موحد لكل الفلسطينيين.
ومن جهة أخرى، عندما تطغى روح الادعاء بالفضل من منطلق سياسي تنافسي ويصبح إصدار البيان أهم من مضمونه، فإن من شأن ذلك أن يؤدي إلى وضع يصبح فيه هدف تحقيق الاستمرارية مبررا للوسائل أيّا كان شكلها، وحتى لو اشتملت على الإلقاء بأنفس الشباب إلى التهلكة. وبالإضافة إلى كون هذا المآل غير مقبول إنسانيا أو أخلاقيا، فإن من شأنه أن يؤدي أيضا إلى إجهاض الانتفاضة عوضا عن إذكاء روحها.
ثانيا ينبغي الإحجام عن تحميل الانتفاضة الحالية ما لا طاقة لها به، سواء بالترويج لإمكانيتها على تحقيق أهداف غير واقعية على المدى القصير أو من خلال الدفع في اتجاه عسكرتها.
وأخيرا، وليس آخرا، يجب توخي عدم الوقوع في مطب محاولة احتواء الانتفاضة، والامتناع حتى عن مجرد التفكير باللجوء للقوة لغرض لجمها أو احتوائها. وبخلاف ذلك، لا يمكن أن يؤدي مثل هذا التوجه إلا إلى تعميق الهوة بين القيادة والشعب، لا بل وربما إلى خلق حالة من التوتر الداخلي وعدم الاستقرار بما لا تحمد عقباه.
|
التعامل مع واقع الانتفاضة
فيما سبق تأكيد على ما ينبغي تجنبه في إطار محاولة التعامل مع واقع الانتفاضة الثالثة ومستقبلها. وأما بشأن ما يتعين عمله، فيكمن أساسا في محاولة الاستفادة سريعا، وبشكل جوهري واستراتيجي، من الفرصة التي تتيحها هذه الانتفاضة لوضع جوهر العلاقة الفلسطينية مع القوة المحتلة على أسس مغايرة تماما لما تم اعتماده وممارسته على الأقل منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو.
وللتأكيد، ليس المقصود هنا الاسترسال في إطلاق الدعوات، لا من قبيل التلويح ولا من باب تكرار التأكيد، لإلغاء اتفاقيات أوسلو، وتحت عناوين تراوحت بين رفع كلفة الاحتلال على القوة المحتلة وتحميلها المسؤولية الكاملة عنه، علما بأن التداول بهذه الأفكار كان قد بدأ إبان ذروة الانتفاضة الثانية بعد اجتياح جيش الاحتلال لمدن الضفة الغربية وعودة ما يسمى بالإدارة المدنية لتولي زمام إدارة شؤون المواطنين بصورة مباشرة، ثم امتد بعد سنوات ليصل إلى مراكز صنع القرار وليتم التعبير عنه رسميا في مناسبات ومحافل عدة وصولا إلى الرسالة التي وجهها الرئيس محمود عباس للعالم في خطابه الأخير من على منبر الأمم المتحدة. وعلى أهمية ذلك كله، لم تتم لتاريخه، وعلى مدار نحو عقد ونصف من الزمن، بلورة موقف يقضي بالشروع فعلا في تنفيذ إجراءات عملية في إطار مفهوم جديد للعلاقة الفلسطينية الإسرائيلية قائم في جوهره على أساس مبدأ الندية والتكافؤ.
في سياق التسلسل المنطقي للأمور، فإن عملية صياغة مفهوم جديد للعلاقة بيننا وبين القوة المحتلة تتطلب أولا اعتماد برنامج وطني يحظى بالإجماع، أو بدرجة عالية من التوافق، من قبل أبناء وبنات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. ولتسهيل السعي لتحقيق ذلك، قد يكون من المفيد الاسترشاد بتجربة الفلسطينيين أنفسهم من خلال استعراض سريع للأهداف أو الأهداف المحتملة للمراحل المختلفة للنضال الفلسطيني منذ مطلع عشرينات القرن الماضي، حين كان جل الاهتمام الوطني مكرسا ليس لإقامة دولة فلسطينية وإنما لمنع اليهود من إقامة دولة على أرض فلسطين التاريخية.
تحولات في الفكر السياسي
أمام الواقع الراهن، الذي ازداد تعقيدا، وبشكل مطّرد، على مدار العقد الفائت نتيجة لحالة الانقسام والتشرذم التي ألمَّت بالنظام السياسي الفلسطيني وأضعفت أداء مختلف مكوناته، وأيضا لتطورات إقليمية ودولية أقصت القضية الفلسطينية عن دائرة الاهتمام المباشر على هذين الصعيدين، لا يبدو من المجدي الآن السعي لبلورة رؤية سياسية تحظى كافة مكوناتها وعناصرها بدرجة كافية من التوافق الوطني، لا لجهة أسس ومنطلقات هذه الرؤية ولا لجهة الآليات والأدوات اللازمة لتنفيذها.
وعليه، لا يبدو من الواقعية بشيء توقع الوصول إلى مثل هذه الصيغة في الظروف الراهنة أو بالسرعة المطلوبة للاستفادة مما تتيحه الانتفاضة الحالية من فرص لوضع جهد الكل الوطني على مسار يبعث الأمل مجددا. ففي إمكانية هذا الجهد تصويب مسيرة النضال الفلسطيني وتعزيز قدراتها.
وعليه وعوضا عن الاستمرار في توخي السعي لتحقيق الأمثل، الأمر الذي، وللأسف، لم ينعكس لتاريخه سوى بالحديث عنه والتبشير بمزاياه، وبما أفضى إلى تدهور خطير في مكانة ومصداقية مختلف مكونات النظام السياسي الفلسطيني، قد يكون من الضرورة المبادرة ببلورة برنامج سياسي يُعبَّر عنه ليس بلغة حمّالة أوجه، كما حصل سابقا، وإنما بدرجة عالية من الوضوح والتحديد في إطار جامع ومتفق عليه لبرنامج عمل لا يتطلب الشروع في تنفيذه الموافقة الفورية من قبل جميع الأطراف على كافة أسسه ومكوناته وتحديدا، فإنني أقترح ما يلي:
*أولا، من منطلق الحرص على تبديد أيّ شك على الساحة الداخلية بشأن ما آل إليه موقف منظمة التحرير الفلسطينية في ضوء ما اعترى مرجعيات “عملية السلام” من تآكل خطير بعد ما يزيد عن عقدين من فشل جولات متكررة من المفاوضات مع إسرائيل، يتم التأكيد من قبل المنظمة على التمسك التام بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني كما عرفتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها الحق في عودة اللاجئين إلى ديارهم، والحق في تقرير المصير وفي دولة كاملة السيادة على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة في عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ويوفر مثل هذا التأكيد، ودون إجحاف لموقف الأطراف الفلسطينية المعارضة حاليا لمفهوم حل الدولتين، أداة لتحقيق هدف مزدوج، يتمثل الشق الأول منه في إرسال رسالة واضحة مفادها أن لا استمرار في التفاوض على أساس المنهج القائم، وإنما، وبما يمليه مبدأ الندية والتكافؤ، على أساس الاعتراف بحقوقنا الوطنية كمدخل لا يمكن القفز عنه.
أما الشق الثاني للهدف من التأكيد على التمسك بحقوقنا الوطنية كافة، فيكمن في أنه يمثل مدخلا هاما للشروع الفوري في إنهاء حالة الانقسام والتشظي في النظام السياسي الفلسطيني.
*ثانيا، بالرغم من الانشغال الآني في مقتضيات التعامل مع الوضع الناشئ عن الانتفاضة الحالية، لا بل من أجل أن تكون منطلقات هذا الانشغال إيجابية لجهة الحرص على توفير كل الظروف المواتية لتعظيم قدرة الانتفاضة على النجاح يجب الشروع في اتخاذ إجراءات عاجلة كفيلة بوضع حد نهائي لحالة الانقسام في النظام السياسي الفلسطيني. ويتطلب هذا بالضرورة البدء من العنوان الأكثر أهمية في الوقت الحاضر، ألا وهو قطاع غزة.
هذا هو الخيار الصحيح لسببين، وهما الحاجة الملحّة للتعامل مع الأوضاع الإنسانية الكارثية في القطاع، وكذلك من منظور استراتيجي، نظرا للحاجة إلى إعادة إدماج قطاع غزة كجزء لا يتجزأ من النظام السياسي الفلسطيني، كشرط أساسي على درب السعي لنيل حقوقنا الوطنية.
تتطلّب إعادة الإدماج هذه اتخاذ خطوات جادة نحو الشروع في إدارة التعددية الفلسطينية بطريقة ناجعة، فيما يتعلق بمتطلبات إدارة الشأن الداخلي الفلسطيني والعلاقات الدولية، على حد سواء. وهذا بدوره يتطلّب الدعوة لانعقاد وتفعيل إطار القيادة المؤقت لمنظمة التحرير بصفة فورية، وضمان تَمكُّن حكومة ممثلة لكافة مكونات الطيف السياسي من ممارسة صلاحياتها كاملة، وكذلك إعادة انعقاد المجلس التشريعي...
هناك حاجة إلى إعادة إدماج قطاع غزة كجزء لا يتجزأ من النظام السياسي الفلسطيني، كشرط أساسي على درب السعي لنيل حقوقنا الوطنية
يجب أن تُكلَّف الحكومة، المخولة بممارسة كامل الصلاحيات الممنوحة لها بموجب القانون الأساسي والمدعومة بمشاركة جميع الأطياف والقوى السياسية، بشكل أساسي بالمهمة المزدوجة، لجهة إعمار غزة وإعادة توحيد المؤسسات الفلسطينية والأطر القانونية في الضفة الغربية وغزة. ويجب أن يتم ذلك في ظل المساءلة الكاملة التي تتأتّى بالانعقاد الفوري للمجلس التشريعي، والذي من شأنه أيضا أن يسهم بشكل مباشر كرافعة أساسية لمنظومة متكاملة من الحكم الرشيد والإدارة السليمة.
إذا أخذنا هذه الإجراءات ككل متكامل، إضافة إلى التزام قطعي بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وتضم الجميع في أجل لا يتجاوز ستة أشهر، فإن من شأن ذلك أن يمثّل خطوة في تحقيق التمكين الذاتي الفلسطيني.
وهذه الخطوة يمكن أن تكتسب قدرة تحوّلية كافية في اتجاه معالجة، على الأقل، بعض مكامن الضعف الأساسية المتأصلة في النهج الذي تم اعتماده في التعامل مع إسرائيل في إطار اتفاقيات أوسلو، وخاصة فيما يتعلق بمسألة التمثيل الفلسطيني في ضوء تعاظم مكانة فصائل سياسية غير ممثلة بعد في منظمة التحرير.
*ثالثا، بالتوازي مع كل ما ذكر أعلاه، لا ينبغي التوقف، ولو للحظة، عن الانخراط التام، وعلى كل المستويات الرسمية والأهلية والشعبية، في دحر الاحتلال وبسط واقع الدولة الفلسطينية على الأرض بالرغم من الاحتلال وعلى درب إنهائه. ويعني هذا بالضرورة تركيز الجهود على تعزيز القدرة على البقاء المقاوِم في وجه الاحتلال وممارساته، وخاصة في القدس والمناطق المسماة “ج”، بما فيها الأغوار. وبالإضافة إلى المنطق الذي لا يحتاج إلى الكثير من البيان بهذا الشأن لكونه ليس إلا ترجمة عملية لشعار الصمود الذي يتبناه الفلسطينيون كافة، فإن فيه أيضا تنفيذا لمطلب الانعتاق من أوسلو التي قضت باستثناء القدس من النشاط الرسمي للسلطة الوطنية وبقيود مكبلة جدا تصل إلى منع نشاطها في حوالي 60 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، بما يشمل منطقة الأغوار.
وكذلك، فإن الانخراط في بسط واقع الدولة وتجسيدها على الأرض يمثل في جوهره، وكمكون أساسي لرؤية سياسية متكاملة، تجسيدا عمليا للمفهوم الأساسي للانتفاضة، والمتمثل في إذكاء روح المشاركة الشعبية لاستنهاض الجهود والطاقات على كافة المستويات وتسخيرها لدعم البقاء الفلسطيني المقاوم على أرض فلسطين وصولا إلى دولة المؤسسات وسيادة القانون، دولة احترام الفكر والمعتقد، دولة ديمقراطية تزهو بتعدديتها ويسودها العدل وتكافؤ الفرص، دولة تحرص على كرامة مواطنيها ويصون دستورها الحريات والحقوق الفردية والجماعية وتتكيف أنظمتها وقوانينها وفق المستجدات ومتطلبات الحداثة، دولة عصرية تطلق العنان لإعمال العقل والإبداع والتميُّز، وتوفر الرعاية والحماية لفئات المجتمع الأقل حظا.
هذا هو طريق الإسناد الفعلي للانتفاضة، وهكذا يُجسّدُ شعار “الوحدة والعدالة والنظام” الذي طالما نادى به المناضل حيدر عبد الشافي كشرط لإنهاء الاحتلال واسترداد الحقوق. إنها لحظة الحقيقة التي لا مجال للهروب منها.. وفي هذا التوقيت بالذات وعلى خلفية الشك والتشكيك بمصير كياننا الوطني ووحدة حالنا، هناك رسالة أخرى في منتهى الأهمية مفادها “إنا هنا باقون”.
رئيس الوزراء الفلسطيني السابق