بريطانيا تعيد ترتيب سياساتها تجاه الشرق الأوسط

تكتسي العلاقات البريطانية مع دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها دول الخليج، أهمية كبرى بالنسبة للندن التي تقيم علاقات اقتصادية وثقافية وعسكرية وأمنية قويّة مع هذه الدول، وترغب في حماية مصالحها الاستراتيجية وفق مقاربة دبلوماسية حذرة في التعامل مع القضايا الحساسة التي تشهدها المنطقة، غير أنّ هذه المصالح المتبادلة باتت مهدّدة بالتأثر بتحوّلات سريعة وسياسات دولية متباينة ومصالح إقليمية متناقضة وهويات متصارعة تحددها جملة من التفاعلات الداخلية والخارجية للأزمات التي تعيشها المنطقة في كل من سوريا والعراق واليمن.
وقد باتت هذه المعطيات تطرح جملة من التساؤلات حول مآلات السياسة الخارجية البريطانية المحتملة تجاه العالم العربي وأهدافها الآنية وبعيدة المدى في ظل هذه التّغيرات، فضلا عن سعي الدبلوماسية البريطانية لمعالجة ما خلفته السياسة الأميركية حيال التحديات المطروحة وعلى رأسها الإرهاب، والسياسات المتباينة إلى حد التناقض التي تشل كل جهد لمواجهة عناصر التهديد، حيث برز في الآونة الأخيرة أن كل تحالف يقام ويعقد في المنطقة، توجهه أجندة خفية غالبا ما يكون هدفها إضعاف الورقة العربية وتعطيل مصالحها الحيوية.
علاقة تاريخية متأرجحة
حظيت منطقة الشرق الأوسط خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بمكانة هامة في سياسة الإمبراطورية البريطانية، حيث شكلت هذه المنطقة على الدوام مدخلا جغرافيا مهما، أمّن طريقها إلى الهند ووضعها الاستراتيجي هناك، مما دفعها إلى اللجوء إلى مختلف الوسائل العسكرية والدبلوماسية للحفاظ على تأثيرها رغم احتدام المنافسة الفرنسية والروسية، وقد استطاعت الحفاظ على دور بالغ الأهمية وتكريس نفوذ بارز يبدأ من شبه القارة الهندية والجزيرة العربية، وصولا إلى نهر النيل والمتوسط.
لندن تدرك أن حصيلة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لم تتضمن خططا واضحة لإقامة أمن حقيقي ينبع من المنطقة
وارتبط هذا الحضور القوي في العلاقات الدولية بالرهان الاستراتيجي الأول الذي تمثل في نتائج “اللعبة الكبرى”، التي اختزلت تاريخ المنافسة الاستعمارية بين التاج البريطاني والإمبراطورية الروسية في آسيا الوسطى في عام 1813، ثم وصولا إلى الاتفاقية الإنكليزية الروسية المبرمة في عام1907، أما الرهان الاستراتيجي الثاني الذي أرست من خلاله الإمبراطورية البريطانية سلطتها القوية في العالم، فتمثل في دورها التاريخي في تحديد المصير الذي عرفه نجاح رسم وتشكيل خارطة الشرق الأوسط، ابتداء من عام 1699، تاريخ توقيع معاهدة كارلوفيتز التي تؤرخ فعليا لتراجع سلطة الباب العالي في أوروبا الوسطى، والذي انتهى مسارها الطويل في عام 1918، تاريخ تهاوي الإمبراطورية العثمانية، وإلغاء الخلافة في عام 1923. لكن أسوأ تأثير تركته الدبلوماسية البريطانية، تجلى في كونها المولد الأول للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث غالبا ما أحاطت هذا الصراع بكثير من وعود السلام، لم تسفر في أغلبها عن الوفاء بأي منها.
ومنذ تغير النظام الدولي بنهاية الحرب العالمية الثانية، بدأ التأثير البريطاني يشهد تراجعا تلو الآخر في الشرق الأوسط، فكانت النتيجة أن دخل في تبعية مطلقة للسياسة الأميركية، وغرق في وحل التدخلات العسكرية الأميركية في الخليج، ثم في كوسوفو وأفغانستان وصولا إلى المشاركة في الغزو الأميركي للعراق والتدخل العسكري في ليبيا عام 2011، ولولا تدخل البرلمان البريطاني الذي رفض التدخل العسكري في سوريا في أغسطس 2013 لوقعت لندن في نفس المطب مرة أخرى. وهو ما يطرح سؤالا محوريا حول مآل الدور التقليدي والخاص الذي اتبعته لندن إلى جانب الحليف الأميركي في جل تلك التدخلات.
اعتزام بريطانيا تطوير قاعدة عسكرية دائمة في البحرين يتنزل في إطار تقوية حضورها في المنطقة
ومن الملاحظ على مستوى الخيارات المركزية التي تحكم السياسة البريطانية، أنه ثمة تغيرات جوهرية ستترك تداعيات لافتة على دبلوماسية لندن، حيث شملت تلك الخيارات تقليص ميزانية الدفاع البريطاني بنسبة 8 بالمئة ما بين عامي 2011 و2015، مما بات يحد من فرضية التدخلات العسكرية. وهو ما اعتبرته واشنطن في حينه عاملا سلبيا سيؤثر على التحالف العابر للمحيط، وسيشكل عبئا كبيرا على مهمة حفظ الأمن الدولي.
ويبدو أن الخيارات البريطانية الجديدة التي بدأت تتضح شيئا فشيئا، قد أخذت بعين الاعتبار أنّ الاستدارة شرقا نحو المحيط الهادي الذي بدأت واشنطن في تفعيله، لا تستوعب في استراتيجيتها أي دور موكول للأوروبيين بصفة عامة، ولبريطانيا بصفة خاصة.
أمّا على مستوى الشرق الأوسط، فيبدو أنّ بريطانيا ما زالت لم تتخلص من الحصيلة التاريخية التي رسمها مؤتمر سان روميو سنة 1920، فهو ولئن كان يراعي مصالح بريطانيا في فتح ممر آمن لها نحو الهند، إلاّ أنه بات اليوم مهددا بالكامل في تقسيماته وخارطته. بل إن المملكة المتحدة باتت تشعر بمدى خطورة العبث بخارطة ساهمت في الحفاظ على عدة مزايا اقتصادية واستراتيجية لها، وإمكانية أن تحل بعض القوى الكبرى المنافسة محلها في سياق تفاعلات تغيير معالم هذه الخارطة.
تعزيز الحضور
|
باتت لندن مدركة على ما يبدو بأن حصيلة السياسة الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط، لم تتضمن خططا واضحة لإقامة أمن حقيقي ينبع من المنطقة، ومن كافة الأطراف، بل شهدت المنطقة حروبا ثلاثة حالت كليا دون إمكانية قيام أمن تعاوني.
وتدرك بريطانيا أيضا بأن أي تغييرات دراماتيكية في الوقت الحالي، ستنعكس سلبا على مصالحها الاستراتيجية، وليس من المتصور أن تساهم في سياسة تفقدها مصالحها في دول الخليج كما تفعل واشنطن الذي بدأ يتآكل رصيدها، وتتراجع مكانتها، ويحوم حول سياستها المتذبذبة كثير من الامتعاض، جرّاء سعيها إلى الإخلال بتوازنات المنطقة وإعادة إنتاج العديد من الحلول المتعثرة، سواء من خلال تورطها في تسويق النموذج التركي في الشرق الأوسط عبر استمرار علاقاتها مع تنظيمات تكفر مجتمعاتها، وتحمل أفكارا متطرفة وعنيفة، أو عبر فتح الباب لإيران للعودة إلى السّاحة الدولية والإقليمية وما يعنيه ذلك من تصاعد لوتيرة التهديدات التي يمكن أن تشهدها في المنطقة، من خلال سعيها الدائم إلى التدخل الفاضح في الشؤون الداخلية للدول العربية، حيث تصب الجهود الأميركية على ما يبدو في سياق الدفع بتنامي النفوذ الإيراني على حساب الأمن الإقليمي العربي.
وأمام هذا الوضع، تحاول المملكة المتحدة تشكيل دورها من جديد، وإعادة ترتيب سياستها تجاه الشرق الأوسط، حيث بدأت تجري ترتيبات جديدة على أوليات مصالحها في محاولة لاستعادة رصيدها السابق، وحتى إعادة فتح سفارتها في طهران فهي مفهومة وتعتبر محاولة تكتيكية تتنزل في سياق البحث عن لعب دور قوي في توازنات الشرق الأوسط، وليست تعديلا على مستوى الاستراتيجية الأساسية التي تحكم مسار العلاقات الأمنية والتعاون العسكري الوثيق بين دول الخليج والمملكة المتحدة.
وفي هذا الإطار، شكل إعلان بريطانيا عن اتفاقية تتيح لها تطوير قاعدة عسكرية دائمة في البحرين في 5 ديسمبر 2014، حدثا بالغ الأهمية، خاصة أنها تمثل أول قاعدة عسكرية دائمة منذ سنة 1971. وتطرح هذه الخطوة سؤالا محوريا مفاده، كيف يمكن قراءة هذه العودة المفاجئة والمباغتة للقوات البريطانية، ولماذا في البحرين؟
بريطانيا ما زالت لم تتخلص من الحصيلة التاريخية التي رسمها مؤتمر سان روميو سنة 1920
إنّ المضامين الرئيسية لهذا الحدث تكمن في كون السياسة الخارجية البريطانية، سياسة أفعال تتسم بكونها شديدة البراغماتية، فالقادة البريطانيون يتفاعلون مع سير الأحداث بطريقة آنية، وخطوتهم هذه إنما هي تقوية لحضورهم ورسالة موجّهة لطهران.
ومن أمثلة تقوية هذا الحضور كذلك، قيام المدمرة البريطانية في 20 يوليو 2014 بمرافقة حاملة الطائرات الأميركية “جورج بوش” في عرض الخليج العربي في إطار عمليات القصف الجوي في العراق ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، حيث ما لبثت أن أعلنت بريطانيا بعدها، وتحديدا في 22 يناير 2015 في إطار الاجتماع الذي ضم أعضاء التحالف ضد داعش في لندن، على لسان فيليب هاموند وزير خارجيتها عن قبولها تقديم دعم عسكري قوي لحكومة حيدر العبادي في مواجهة تنظيم داعش، فيما تكللت مشاركة قوات خاصة من البحرية البريطانية مع القوات العمانية في أكتوبر 2013، والتي تم تنظيمها بغاية التدريب وتطوير مهارات إطلاق الذخيرة الحية، والتدريب على القتال في المناطق الحضرية، والإنزال على الشواطئ، بالإعلان عن القيام بمناورات عسكرية كبرى في عام 2018، تخلله إرسال مستشارين عسكريين إلى سلطنة عمان.
وبغض النظر عن جملة التحليلات السابق، الثابت أنّ هذا الإعلان المفاجئ يطرح معه أيضا كثيرا من الأسئلة حول مدى اتفاق الشريكين الأميركي والبريطاني على تطوير سياسة متوافق عليها بخصوص مخاطر نظام عالمي جديد قيد التشكل، وخاصة في الشرق الأوسط.
عدد من الخبراء البريطانيين يعتبرون أنّ منطقة الشّرق الأوسط تعرف تفاقما للصراعات، ويرون أنها مرشحة لمزيد من التصدع الجيوساسي
وتدرك بريطانيا جيدا أنّ الشكل المستقبلي للإقليمين العربي والشرق أوسطي سيكونان محصلة للتفاعلات والعمليات السياسية المؤثرة دوليا، حيث لا يخفى عليها أنّ منطقة الخليج كانت منطقة نفوذ تابعة لها، وهي لا تزال تمارس سياستها الناعمة هناك، ولها تأثير ثقافي كبير على النخب المحلية التي تكونت غالبيتها في المؤسسات والمعاهد والجامعات البريطانية، لذلك فهي تعتبر أن طموحات إيران وسعيها للدخول في محاور دولية، باتت تشكل أخطارا كبيرة على التوازنات الإقليمية التي أرستها بريطانيا منذ قرن من الزمن في المنطقة. وبهذا يتضح الهدف الأساسي لقاعدة البحرين، التي تدخل في صميم سياسات حلف شمال الأطلسي الخاصة بـ”تطويق التمدد الإيراني الإمبراطوري”. كما أن بريطانيا واعية بأن أمن الخليج يشكل أهمية حيوية بالنسبة لاقتصادها، لذلك تؤمن بأن الحفاظ على استقرار بلدانه يصب في مصلحة العديد من قطاعاتها. كما أن جهوده هذه تتنزل في سياق الحد من تصاعد الدور الاقتصادي والتكتيكي الذي تقوم به كل من الصين وروسيا لتدعيم علاقاتها مع بلدان المنطقة.
خلاصة القول يبقى أن نشير من الناحية الجيوسياسية، إلى أنّ عددا من الخبراء البريطانيين يعتبرون أنّ منطقة الشّرق الأوسط تعرف تفاقما للصراعات، ويرون أنها مرشحة لمزيد من التصدع الجيوساسي في ظل تواصل الأزمات في كل من العراق وسوريا واليمن، ومزيد من التغييرات في أركان التوازن القائمة الآن إذا لم يتم الالتزام بأحكام المواثيق الدولية واستمرار تناقضات الأهداف والرؤى بين الأطراف الدولية الرئيسية. وهو ما يستدعي من العرب تنويع شراكاتهم ووضع بدائل استراتيجية جديدة تعتمد على تحالفات من كل دول العالم ومن مختلف القارات، على نحو يفتح لهم آفاقا جديدة وتعزيزا لأمنهم القومي في هذه المرحلة التي تعرف تغييرات سريعة.
باحث جامعي، مركز أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون