نصيحة من والدي
في إحدى الليالي الماضية، اتصل بي والدي على الهاتف، فقال لي، دعني أقرأ لك الإهداء الذي سبق لك أن دوّنتَه في كتابك “اليسار الفرنسي والإسلام” (1997)؛ فلقد أعدتُ قراءته هذا اليوم ثم أيقنتُ بكل فخر واعتزاز أن لي يد فيما أنت فيه.
فبدأ يقرأ لي ويُسمعني كما لو أن الكلام لستُ أنا كاتبه “إلى أبي الذي كان يقول لي: إنّ المال ليس أعدل قسمة بين الناس فلا تضيّع سنوات عمرك في ابتغائه، وإن السلطة قد لا تكون ضمن المتاح فلا تصرف جهدك في ارتضائها، لكن عليك أن تعلم بأن أعدل قسمة بين الناس هي المعرفة، فإليها أسند ظهرك وعليها قصر حياتك. لن أطلب منك شيئا، فلقد وهبتك لطريق لا تُدرَك منتهاه، تماما كما أهب صلواتي كل يوم دون أن يطمئن قلبي لليقين (…) إلى أستاذ علوم التربية الذي لم ينجبني إلا بعد أن أفرغ من قراءة ‘إميل’ ثم نفخ في جسدي نفحة من روح التّنوير، لكنه لم يحرمني من الشجرة، ولقد تركني ألتمس ظلي بنفسي عساني أجد مكاني في جنة فانية”.
قلت له: عجبا أن يكون هذا الكلام قد قيل قبل نحو عشر سنوات؛ فكيف لي أن أتوقع مبكرا نجاتي من غواية المال! لكن، في واقع الأمر لم أحتج لجهد جهيد خلال المقاومة، على الأقل منذ قال لي والدي، وقد كنت وقتها في سن الثانية والعشرين: لا أملك مالا أمنحه لك، لا أملك إرثا أتركه لك، لكن لديّ نصيحة ثمينة قد تنفعك: منحَك الله ذكاء متوقدا، إذا أنت أردتَ استعماله لأجل المال أمكنك ذلك، وإذا أنت أردت استعماله لأجل المعرفة أمكنك ذلك، لكن لا تحاول الجمع بين الهدفين؛ إنهما لا يجتمعان في قلب واحد. وقتها تملكني رعب شديد؛ فقد أدركت أني في تلك اللحظة قد أضعت الهدف الثاني.
بعدها بدأت أتشرّب المذهب الأبيقوري مبكرا جرعات تلو الجرعات كما لو أني أتجرع ترياقا وجوديا؛ فقد كان ذلك يمنحني القدرة على الاستمتاع بالحياة بأقل كلفة ممكنة أو حتى دون كلفة. واكتسبتُ الكثير. في السنوات القليلة الماضية التقيتُ بأثرياء في عدد من الدول التي زرتها، أثرياء يسبحون في أرصدة بملايين الدولارات. بعضهم ينفق الكثير بحثا عن متعة تطير منه فتطير به من مكان إلى مكان، من ملهى إلى ملهى، من نساء إلى نساء، ويلاحقها كخيط دخان سرعان ما يتلاشى، لا هو يظفر بالمتعة كما ينبغي ولا هو يستقر له حال.
بعض الأقوال حكم، وهناك حكمة بليغة تقول: بواسطة المال تستطيع أن تشتري ساعة لكنك لا تستطيع أن تشتري الزمن. بواسطة المال تستطيع أن تشتري كتابا لكنك لا تستطيع أن تشتري المعرفة. بواسطة المال تستطيع أن تشتري الهدايا لكنك لا تستطيع أن تشتري الحب.
حول الحب لا أعرف مقدار ما أملك لكني لم أشعر يوما بالنقص، وهذا يكفيني. حول المعرفة لا أعرف مقدار ما يمكنني أن أعرف لكني لم أشعر يوما بالخصاص، وهذا يكفيني. حول الزمن لم أشعر يوما بأن الوقت قد فات، وهذا هو التحدي الأهم.
لكن، هناك مسألة أخيرة، فإن نصيحة والدي لي قبل سنوات لا أستطيع اليوم أن أقولها لابنتي. لربما كان والدي أبا شجاعا بالفعل. وربما هذا ما ينقصني.