في حاجة الحكام إلى الحكماء

الاثنين 2015/09/14

قد لا يحمل الأمر حنينا إلى فلسفة أفلاطون، رغم أن حنينا كهذا ليس عيبا في ذاته، لكن المؤكد أن الحاكم بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي، يحتاج إلى مجالسة الحكماء، تماما مثلما يفعل بعض رجال الدولة في الغرب، ويفعلها أشهرهم منذ نابليون بونابارت في فرنسا إلى غاية باراك أوباما في أميركا اليوم. مجالسة الحاكم لرجال السلطة لا تكفي، مجالسته لرجال المال لا تكفي، مجالسته لرجال الدين لا تكفي، فهو يحتاج إلى صحبة من نوع خاص؛ ذلك أن قرارا صغيرا من موقع السلطة قد يؤثر بنحو مباشر على حياة الملايين من البشر سلبا أو إيجابا، وقد يظهر الأثر بعد سنوات طويلة بحيث لا يراه من صنعوه أول الأمر. وهذا يتطلب زهدا كبيرا قد لا يوفره إغراء السلطة، أو إغراء المال، أو إغراء النعيم الأخروي.

إن قرارا غريزيا أو انفعاليا من موقع السلطة قد يدمر دولة وحضارة وأمة ولو بعد عقد من الزمن، وقد يورط في الأخير دولا بأكملها، بل قد يورط العالم بأكمله. إن بعض أخطاء السلطة قد تترك أثرا مدمّرا يتخطى عمر الحاكم أو مدة حكمه أو ولايته. هذا ما أدركه أفلاطون الذي اشترط في الحاكم أن يكون حكيما، بحيث لا يفكر تحت سقف الهنا والآن. غير أن المشكلة التي لم ينتبه إليها أفلاطون، وربما هنا يكمن سقفه التاريخي، أن السلطة تفسد الإنسان في الأخير، حتى ولو كان هذا الإنسان حكيما أو نبيا. لقد سبق لروبسبير أن قال إنّ السلطة تُفسد الإنسان، ثم دوّن هذا الاعتراف في إعلانه الشهير لحقوق الإنسان، والذي لم يصادق عليه مجلس البرلمان وقتها، ثم صارت هذه الفكرة فرضية تأسيسية عندما أدرك الغرب بأن الجلوس الطويل على كرسي السلطة يفسد الإنسان في النهاية، حتى لو تم تمديد مدة الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية واقتراع عام واستفتاء شعبي (نقارن مثلا بين السنوات الأولى من حكم أردوغان والسنوات الأخيرة). لأجل ذلك، قررت القوانين الانتخابية الحديثة حصر مدّة الحكم في ولايتين متتاليتين محددة بسنوات معدودة مهما بلغت شعبية الحاكم؛ لأن الإرادة الشعبية المفرطة بلا تقنين تقتل الإرادة الشعبية.

هذا درس كبير، ومعناه أيضا أن السلطة السياسية التي ليست بالمكان المناسب للحفاظ على طيبوبة الإنسان، تحتاج إلى نوع من “المضادات الحيوية” التي لا تأتي إلا من خارج السلطة نفسها. الأمر شبيه بما يقترحه الفيلسوف الفرنسي أندريه كومت سبونفيل من ورشات للتفكير الفلسفي داخل المقاولات الإنتاجية، ليس باعتبار أن هناك علاقة مباشرة بين الفلسفة والفعل الإنتاجي، لكن باعتبار أن الفلسفة تنمّي لدى الإنسان الوعي بالذات وبالزمان وبالوجود، وتمنح الشخص نوعا من الحكمة، ومن ثمة تساعده في التغلب على الملل والغضب والإحباط والعدمية. الحكمة في آخر المطاف ضالة الجميع، لكنها يجب أن تكون ضالة الحكام بالأولى.

يعتقد الفقهاء الثيوقراطيون بأنّ الدين صار بديلا عن الحكمة، ويتصور الخبراء التقنوقراطيون بأن التقنية صارت بديلا عن الحكمة، لكن المؤكد أن لا الدين ولا التقنية تكفيان لكي يتعلم الإنسان التحكم في انفعالاته والاحتكام للعقل. إن التجربة التاريخية الحديثة تخبرنا بأن المعايير الحسابية لا تكفي لتقييم التجارب “التنموية”. ومثلا باعتماد تلك المعايير نستطيع القول، لقد نجح هتلر في تصنيع ألمانيا، ونجح ستالين في تصنيع الاتحاد السوفييتي، لكن معايير الكلفة الإنسانية تدفعنا إلى إعادة النظر في فعل “نجح”. أما المعايير الدينية فإنها قد تدفع البعض إلى التضحية بالجميع من أجل أن “يرضى الله” عن البعض، وهذا منتهى الأنانية والطائفية.

تحتاج السلطة إلى الاستعانة بعقول زاهدة في السلطة، زاهدة في الغنيمة، زاهدة في “الشهادة”، زاهدة في كل أشكال الخلاص الفردي أو الشخصي بالمعنى الدنيوي وبالمعنى الأخروي أيضا. تحتاج السلطة إلى معاونين مجردين، بحكم نمط عيشهم، من كل مؤثرات المصلحة الشخصية، ومتفرغين وجوديا ووجدانيا للتفكير في المصلحة العامة. هؤلاء نادرون، نادرون جدا في بعض الأحيان، لكنهم ضروريون وحاسمون أيضا.

منطق السلطة أقرب ما يكون إلى الحس المشترك. لذلك لا تستطيع السلطة في أعدل أحوالها التعبير سوى عن مجموع المصالح الشخصية، في حين أنّ مجموع المصالح الشخصية لا يقود بالضرورة إلى المصلحة العامة. هناك إذن ثغرة لم يجب عنها الفكر الديمقراطي المعاصر.

ولنأخذ مثالا توضيحيا: حين تقترض حكومة معينة من الخارج لأجل الرفع من رواتب كل العمال والموظفين، فإن هذا الإجراء قد يعبر عن معظم المصالح الشخصية. لكن، بمعايير المصلحة العامة الممتدة في الزمان والمكان، قد يمثل هذا الإجراء ضررا بليغا على حياة أجيال عديدة. وأيضا، قد لا يعبّر تغيير مناهج تدريس الرياضيات أو الفلسفة عن المصالح الشخصية للناس، والتي هي مصالح حسية، لكن بمنظور المصلحة العامة، فقد يكون مثل هذا الإجراء إنجازا عظيما.

مفهوم المصلحة العامة، مفهوم نظري، لكنه محوري وجوهري في بناء حياة سياسية عاقلة، هو أشبه ما يكون بفرضية عمل غير مبرهن عليها لكنها ضرورية. المصلحة العامة ليست مُحصلة الجمع بين المصالح الخاصة، لكنها ثمرة قدرة العقل على تخطي كل المصالح الخاصة. وبما أن الإنسان كائن أناني بطبعه، يبقى تخطي المصلحة الخاصة أمرا نسبيا بل ومستعصيا في أغلب الأحيان.

ثمة فراغ متأصل في البناء الديمقراطي المعاصر، فراغ يحاول أن يملأه “ورثة أفلاطون”، أولئك المفكرون الإستراتيجيون الذين لا يفكرون في المصالح المحدودة في فترة الولاية الانتخابية، أو المحددة بأعمار الحكام، لكنهم يحاولون تجسيد المصلحة العامة بمعناها الإستراتيجي والتاريخي. إنهم ليسوا بالضرورة خريجي مسالك تعليمية محددة، لكنهم في الكثير من الأحيان إفراز مخاضات غامضة ومنعطفات دقيقة ومسارات منفلتة. ودعنا نقول بأسلوب هيغلي، إنهم عصارة احتكاكات دراماتيكية في صيرورة التاريخ. من هنا قد يزعجون في بعض الأحيان، لكنهم نافعون حين يتم استثمارهم داخل أنساق مفتوحة بالفعل.

كان أفلاطون يشترط حكم الفلاسفة لسبب واضح، إنهم الأقدر على استيعاب مفهوم المصلحة العامة، جراء غلبة النفس العاقلة عندهم. غير أن موقف أفلاطون كان مفتوحا على إنتاج الاستبداد باسم العقل، وهو ما حدث مرارا، لكن بإجراء تعديل بسيط يقول آلان باديو، بوسعنا أن نعمد لرفع الشعوب إلى مستوى الإدراك النظري لمفهوم المصلحة العامة، ومن ثمة تمكينها من التجرّد من هيمنة المصالح الخاصة. وهنا يكمن دور المفكرين في التنوير العمومي.

كاتب مغربي

9