الإصلاح الديني يحتاج إلى تغيير مفاهيم الخطاب الشرعي

مبدأ الإصلاح الديني واضح، نحتاج إلى تغيير مفاهيم وتصوّرات الخطاب الديني بنحو جدي وجذري. إذا لم نقم بتحديث المفاهيم الدينية الشائعة، وإذا لم نقم بتغيير التصورات الدينية الرائجة، ستطول معركتنا ضدّ الغلو والفتنة، وقد لا نربحها في الأخير. الحقيقة المنسيّة أنّ التصورات في الأذهان تصبح تصرفات في الأعيان، وأن الخراب يحلّ بالوجدان قبل أن ينخر الأوطان. من أين نبدأ؟
البدايات الممكنة كثيرة، لكنها مجرّد مواضعات. لذلك، سأفترض نقطة بدء تبدو ملائمة: إنّ أزمة الأسس التي نعاني منها اليوم في مسألة الإيمان الديني تضعنا أمام ضرورة العودة إلى الأسس نفسها. يتعلق الأساس الأول بعلاقة الإنسان المسلم بخالقه. هذا ليس أمرا هامشيا أو مفارقا، بل هو البداية الأكثر دقّة. لماذا؟ لأنّ العلاقة التي يقيمها المسلم مع خالقه تنعكس مباشرة على علاقة المسلم بسائر المسائل والقضايا الأخرى، العالم، الطبيعة، الزّمان، الوجود، الحياة، وتنعكس على علاقة المسلم بأخيه الإنسان. وقد نقول بلغة بليغة، تبعا لصورة الخالق لدى الخَلْق يكون الخُلُق. بعبارة أخرى، كما تكون علاقتنا بالله تكون علاقتنا بعيال الله.
والسؤال، كيف هي علاقتنا مع الله؟ لعل استقراء بسيطا لمناهج التعليم الديني وخطب الجمعة والبرامج الوعظية في المجتمعات الإسلامية يجعلنا نستنتج بأنّ علاقة المسلم بخالقه تتسم بطابع الخوف، ولذلك يغلب التركيز بصدد أسماء الله، على ما يصطلح عليه ابن عربي بأسماء الجلال (العظيم، الجبار، المنتقم) على حساب أسماء الجمال (اللطيف، الجميل، الحليم،).
ورُبّ سائل يسأل، هل ثمة من خيار آخر أمام الإنسان سوى أن يكون خائفا مرتعبا أمام جبروت الله وعظمته؟ هل يمكن أن تكون علاقتنا مع الله قائمة على شيء آخر غير الخوف؟ أليس جديرا بنا أن نعلّم الأطفال الخوف من الله حتى يصبحوا مهذبين؟ نعرف أنّ بعض الخبراء الأمنيين في العالم يرى في الأديان فرصة لضبط الشباب.
لكن هؤلاء لا ينتبهون في العادة إلى السؤال: بأيّ معنى، بأيّ خطاب، بأيّ تصوّرات سنقدم هذا الدين للشباب وللقاصرين؟ هل قاد الخوف من الجحيم إلى تراجع نسبة الجانحين وسجناء الحق العام؟
حين نتكلم عن الأخلاق يجب أن نحدد ما الذي نقصده بتلك الكلمة؟ إنّ الأخلاق بالمعنى الحداثي أخلاق معقلنة، تضبط الفضاء العمومي، وتخضع للقياس والتقييم. ويختلف الأمر بالنسبة إلى قيم القدامة. فأنت قد تكرم ضيفك في بيتك، وقد تبرّ بوالديك، لكن هذه الأفعال غير قابلة للقياس. إذ كثيرا ما يحدث سوء تفاهم مذهل حول معاني الكرم، حول معاني البر، حول معاني الأذى.
أزمة الأسس التي نعاني منها اليوم في مسألة الإيمان الديني تضعنا أمام ضرورة العودة إلى الأسس نفسها
وعموما تندرج كل هذه المسائل ضمن آداب السلوك الخاص، والتي هي مسألة تقديرات تغلب عليها الأهواء في كثير من الأحيان. أمّا أخلاق الفضاء العمومي فهي شيء آخر. مثلا فإن الالتزام بالمواثيق والاتفاقيات والمسؤوليات والواجبات والالتزامات والعقود والعهود وتحقيق النزاهة والمصداقية والشفافية، يندرج كل ذلك ضمن القيم العقلانية المؤطرة للفضاء العمومي. المشكلة أننا نعيش حالة تضخم في آداب الفضاء الخاص (آداب قضاء الحاجة، آداب النكاح، آداب الطريق) وهذا على حساب إهمال شبه كلي لأخلاق الفضاء العمومي.
بل الكثير من المفاهيم الأخلاقية الكبرى والمؤطرة للفضاء العمومي قد انحسرت في دائرة آداب الفضاء الخاص. من ذلك على سبيل المثال، مفهوم الفساد، والذي يظل حتى بالمعنى القرآني شاملا للجرائم التي تهدد العمران البشري، قبل أن يقتصر داخل المجتمعات الإسلامية على “الزنا”، ما ينم عن فقر أخلاقي.
والآن، أمامنا ثلاثة أسئلة، السؤال الأول له خلفية فلسفية، والسؤال الثاني له خلفية دينية، والسؤال الثالث له خلفية أمنية. أوّلا هل الخوف يحمي الأخلاق؟ ثانيا هل الخوف يحمي الإيمان؟ ثالثا هل الخوف يحمي الأمن؟
عن السؤال الأول نقول: هناك درس أساس في الفلسفة المعاصرة، تبلور منذ هيغل على الأقل: حين نتحدّث عن الأخلاق، يجب التّمييز بين أخلاق النّبلاء وأخلاق العبيد. لهذا التمييز جذور في فكر الأنوار منذ اللحظة التي جعل فيها سبينوزا وروسو وكانط حرية الإنسان أساس النظام الأخلاقي؛ طالما أن الفعل الأخلاقي نابع من ضمير الإنسان، أي من العقل الأخلاقي الموجود داخل كينونة الإنسان. الأخلاق مسألة طبيعية وفطرية، وكل ما هو طبيعي وفطري يحتاج إلى الحرية.
أليس يقال عن الإسلام نفسه إنه دين الفطرة؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل تحتاج الفطرة إلى العنف والرّقابة والعقاب أم أنّها تحتاج فقط إلى حرية الوجدان حتى تعبّر عن نفسها؟ الإجابة واضحة، لكن، هناك سؤال معلّق، إذا كان الإنسان كائنا أخلاقيا بطبعه فما مصدر الفساد الأخلاقي؟ لماذا يوجد الكذب والنفاق والخداع والاحتيال؟
الأخلاق بالمعنى الحداثي أخلاق معقلنة، تضبط الفضاء العمومي، وتخضع للقياس والتقييم
الإجابة أبدعها هيغل: هذه هي أخلاق العبيد التي نشأت عبر التاريخ جرّاء الاستسلام للخوف. والطامة الكبرى أن ذلك الخوف تحوّل إلى قيم ثقافية كما توضح الرؤية النيتشوية. بمعنى أن الخوف الذي هو انفعال قد يصدر عن الإنسان في بعض اللحظات ويجب أن تعمل أنظمة التنشئة الاجتماعية على كبحه، يتحول في الأخير إلى بنى ثقافية ومؤسسات اجتماعية تحضنه وتستثمره وتورثه للأجيال. إن الإنسان لا يكذب بالطبيعة، لكنه يكذب لأنه خائف. إنه لا ينافق ولا يخادع ولا يغش بنحو اعتيادي وطبيعي، لكنه يفعل ذلك حين يسيطر عليه الخوف.
بخصوص السؤال الثاني، ماذا عن الإيمان؟ هل الخوف هو ضامن الإيمان؟ لم يبق من الإيمان اليوم غير مظاهر الخوف والعنف والزّيف والتزلّف. لأنّ الموقف الذي يُبنى على حالة الخوف لا يصمد إلاّ باستمرار حالة الخوف دون انقطاع. ولكي يبقى الخوف قائما يجب أن تبقى منابع الخوف قائمة دائمة. وإذا كان المتنبي قد قال “لا تشتر العبد إلا والعصا معه” فلأن الطاعة القائمة على الخوف تحتاج إلى استمرار حالة العنف لكي تستمرّ. إنّ الإيمان القائم على الخوف قائم بالأحرى على أرضيّة هشّة طالما أنّ الخوف مجرّد انفعال، والانفعالات متغيرة تزول بزوال أسبابها. فالإنسان لا يكون خائفا إلاّ إذا بقي مصدر الخوف شاخصا أمامه. وهذا ما تراهن عليه استراتيجيات العنف الديني أن يبقى مصدر الخوف شاخصا أمام الناس. فهل هناك شيء آخر غير الخوف يمكن أن يُبنى عليه الإيمان؟
قبل الإجابة، ماذا عن السؤال الثالث؟ هل يضمن الخوف تحقيق الأمن والأمان؟ الأمر واضح هنا، إذا راهن المجتمع على عامل الخوف في بناء أمنه وأمانه، فإنّ الأمن يصبح هشا قابلا للانهيار في أيّ لحظة. لأنّ الخوف لا ينتج غير الحقد والعنف والتطرّف. وبعد أن تتراكم هذه القيم السلبية تأتي ساعة الانفجار.
ما البديل عن الخوف؟ إذا كانت علاقتك بالله علاقة خوف فبوسعي أن أطرح عليك هذا السؤال: ما سبب خوفك من الله؟ وقد تقول لي: النار، الجحيم، الحساب الأخروي إلخ، لكنك إذا كنتَ تحبّ الله فأنا لا أستطيع أن أطرح عليك السؤال: لماذا تحبّ الله؟ إذ ليس هناك من جواب عن هكذا سؤال. لا سبب للحب لأنّ الحبّ بمثابة علّة أولى، إنّه دافع أصلي.
إذا أنشأنا أبناءنا على حب الله فإنهم عندما يكبرون، سواء بقي إيمانهم أو اختفى، سواء عظم اعتقادهم أو انتفى، سيستمر ذلك الحبّ الإلهي الذي اكتسبوه، بل سيفيض على كل مناحي الحياة اليومية. فمن أحبّ الله سهُل عليه أن يحبّ عيال الله، ومن خاف من الله فلن يحبّ عيال الله. لماذا؟ لأن المرتعب لا يحبّ.