المجتمع المفتوح، أو درس الثورة الإيرانية المغدورة
لا بأس أن نتذكر هذا، ولا بأس أن نذكره أيضا، ففيه دروس للشعوب، وفيه بعض العِبر: مباشرة بعد انتصار الثورة الإيرانية جرت أوّل انتخابات حرّة ونزيهة، بصرف النظر عما تحتمله النزاهة من دلالات نسبية، كان ذلك الحدث إنجازا ثوريا بكل المقاييس، كان مكسبا كبيرا ومؤشرا دالاّ على حجم الآمال ومستوى التطلعات.
لكن، ما الذي حدث؟
فاز التيـار الليبرالي بقيادة المفكر الإيـراني أبوالحسن بني صدر بنسبة أصوات فاقت السبعين في المئة، وسرعان ما انقلب عليه التيار الخميني بدعوى حماية الثورة من الاختطاف والانحراف وما إلى ذلـك من مفاهيم غليظة عريضة. وقتها تساهل بعض اليساريين المؤدلجين مع الأمر بدعوى أنّ الخمينيين يظلون في كل الأحوال الأكثر “ثورية” والأكثر “سذاجة” أيضا، بحيث يسهل احتواؤهم واستثمارهم ضمن أفق استراتيجي يتجاوزهم، أو سحب البساط من تحت أقدامهم عند نهاية “اللعبة”. وكان هذا التقدير تقديرا خاطئا، بل كان خطأ قاتلا.
ولأنّ الشّيء بالشّيء يذكر، وللتذكير أيضا، فخلال السنوات القليلة الماضية كاد السيناريو الإيراني يتكرّر في أكثر من بلد من بلدان ما كان يسمّى بالرّبيع العربي، عندما شرعت بعض التيارات المحافظة في تشكيل ما اصطلح عليه بلجان أو مجالس أو روابط حماية الثورة، بمباركة من بعض اليساريين المؤدلجين. ولولا يقظة المجتمع المدني الذي تنبّه للمحاذير، لوقع المحظور. فالمؤكد أنّ الثّورة لا تحتاج إلى حماية أو حراسة، بل لن يكون شعار حماية الثورة سوى خيانة للثورة نفسها، لأنّ المنطق الداخلي للثورة يلزمها بأن تبقى متجددة غير متجمدة، مستمرة غير مستقرّة، متغيرة غير متحجرة، بل ناقدة لنفسها بنفسها باستمرار وعلى الدّوام.
والحال، إذا كان الإبداع المتجدد سمة المجتمع المفتوح، فلن تكون الثورة نفسها سوى إطلاق للعنان لطاقة الإبداع بعيدا عن كل الرهانات الجامدة. وبهذا النحو، لن تكون الثورة هدفا مثاليا مطلوبا لذاته، لكنها ستكون مجرّد فرصة لاستئناف الصيرورة التي هي سمة الحياة وقدر الوجود. الثورة بهذا المعنى انتفاضة الرّوح على كافة أشكال الحِجر والتّحجر، وإطلاق العنان لطاقة الحياة وقوة الإبداع. وهذا ما ترفضه كافّة الأيديولوجيات، حتى ولو ادعت الثورية في لحظة من لحظاتها. وضمنها الأيديولوجيات الدينية. لكن، ما علاقة هذا التحليل بمآلات الثورة الإيرانية؟
كان أبوالحسن بني صدر قارئا نهما لكارل بوبر، وكان يجول بكتاب بوبر، المجتمع المفتوح وأعداؤه، أثناء تفقده لخنادق المقاتلين الإيرانيين إبان الحرب الإيرانية العراقية، في تأكيد منه على حجم ارتباطه الوجداني بفلسفة الناقد الأكبر للنزعات الحتمية، كارل بوبر. غير أنّ الحرب نفسها، ولكي لا ننسى هذا، كانت عاملا كبيرا في انقلاب المجتمع المفتوح إلى مجتمع مغلق. ولعل ذلك الانغلاق هو الأثر السلبي للحروب على معظم المجتمعات. وفعلا، كاد يحدث مثل ذلك في أميركا نفسها إبان فترة بوش الابن ومغامرة المحافظين الجدد. وقتها أيضا ناضل الفيلسوف الأميركي الثري جورج سوروس، باستماتة، دفاعا عن المجتمع المفتوح وفق رؤية كارل بوبر. تماما مثلما يناضل الكثير من اليهود اليوم ضدّ الطابع المغلق الذي يتهدد المجتمع الإسرائيلي. وأيضا، لا ننسى بأنّ ضمن رهانات الحرب المفاجئة التي أعلنها طيب رجب أردوغان مؤخرا على الأكراد، التأثير النفسي على المجتمع التركي ليتحول تدريجيا من مجتمع شبه مفتوح، إلى مجتمع مغلق يخضع لرؤية أيديولوجية مغلقة.
فماذا عن الحكاية الإيرانية؟
استغلّ المحافظون الخمينيون أجواء الحرب الإيرانية العراقية، وانقلبوا على حكومة أبوالحسن بني صدر، وأجهزوا على فرصة بناء أول مجتمع مفتوح في العالم الإسلامي. ليس هذا وحسب، بل ساهمت الأيديولوجيا الخمينية نفسها في ربط الإسلام السياسي، بكافة ألوانه، بفكرة المجتمع المغلق. وبعد هذا التأثير الخميني، كان طبيعيا أن يزيد الإسلام السياسي من انغلاق مجتمعاتنا المنغلقة أصلا.
في أجواء الانقلاب الخميني، اضطرّ أبوالحسن بني صدر إلى الفرار للخارج، حيث أصدر كتابه الشهير “الآمال المغدورة”، يقصد فيه أنّ الأيديولوجيا الخمينية نجحت في إجهاض كل الآمال الإنسانية والعالمثالثية للثورة الإيرانية، وحولتها إلى مجرد ثورة دينية مذهبية مغلقة، ومنغلقة على نفسها وعلى محيط مذهبي محدود وغير مضمون.
واليوم، لربّما هناك بوادر وعي جديد بالحاجة إلى إخراج مجتمعاتنا العربية والإسلامية من كهف المجتمعات المغلقة، ونقلها إلى فضـاء المجتمعات المفتوحة، بحيث يكون بـوسعها أن تقبل بنحو طوعي تغيير فرضياتها ونقد مسلماتها، وإبداع أفكـار جديدة ومتجددة في كل المجالات، بعيدا عن أي تذرّع غـوغائي بـ“ثوابت الثورة”، أو “ثوابت الشعب”، أو “ثوابت الشريعة”، أو “ثوابت الطائفة” أو “ثوابت المذهب”. بل، سيكون بناء المجتمع المفتوح أولوية الأولويات لغاية تحقيق الأمن والتنمية، والمساهمة في بناء السلم الإقليمي المفقود والسّلام العالمي المنشود.
والسؤال المطروح الآن، كيف ننجز عملية الانتقال من مجتمعات مغلقة انغلاقا عقائديا، مذهبيا، وطائفيا، إلى مجتمعات مفتوحة ومنفتحة، تتواصل، تتفاعل، تحاور، تتعايش، تحترم خصوصيات أشخاصها، تحترم حريات أفرادها، تعيد النظر في كل فرضياتها، تنتقد كافة مسلماتها، تسائل نفسها بنفسها باستمرار، تجدد ذاتها بذاتها على الدوام؟
الإجابة، يسميها البعض بالإصلاح الثقافي أو الثورة الثقافية، يسميها البعض بإصلاح العقل أو نحو ذلك. ربّما قد لا نختلف في هذه التوصيفات. لكن الواضح أنّ جوهر كل ذلك كان وسيبقى هو تحديث الخطاب الديني.
كاتب مغربي