كانتونات النار
ساهم التدخّل الوقائي للحد من الخسائر البشرية الناجمة عن المجازر والإبادة الجماعية والكوارث الطبيعية والإرهاب نموا وتطورا في سياق الدبلوماسية، التي تبنّتها الأمم المتحدة منذ عام 1992، وذلك لمعالجة المسائل الإنسانية المهدّدة للسلم والأمن الدوليين، في قطع جذور مبدأ سيادة الدول المطلقة المستمدة من اتفاقية وستفاليا 1648 التي أنهت حرب الثلاثين عاما، والذي لم يعد صالحا لمواكبة المتغيرات التي أسس لها النظام العالمي الجديد.
تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من استخدام التدخّل الوقائي العسكري وشنت حروبها على أفغانستان والعراق وليبيا، بحجة الحفاظ على حقوق الإنسان، والتي كانت ذريعة وأداة للتدخّل الشرعي لتحقيق أهدافها الإستراتيجية من دون إيجاد حلول جدّية للمشاكل التي تواجهها الإنسانية، مثيرة عاصفة من التساؤل والشكوك التي تنطبق على ما يسمى المناطق الآمنة والتي ضمنت الأمم المتحدة في مواثيقها “إنشاء مناطق آمنة يحظر تخزين السلاح فيها أو استعماله”، لكنها لم تضمن تجييرها لخدمة استراتيجية بعض الدول القوية.
الحديث عن منطقة “آمنة في الشمال السوري” لم يتوقف على امتداد الحرب السورية، وخصوصا أن سيادة الدولة السورية لم يعد لها وجود مع المد الإيراني وتكاثر الميليشيات متنوعة الانتماءات، لكنه عاد إلى الواجهة عبر التدخل العسكري التركي من بوابة محاربة إرهاب داعش، رغم ما يبدو جليا للجميع أن علاقة تركيا بداعش لم تكن بريئة طيلة السنوات السابقة، فهي تراه طرفا رئيسيا في إسقاط نظام الأسد، وقد قدمت له التسهيلات اللازمة لجمع الأسلحة والعملات والأفراد انطلاقا من أراضيها دون عوائق. لهذا فإن عودة الإصرار التركي في هذا الوقت بالذات يجعل من محاربة داعش مجرد تفصيل صغير مقابل الهاجس الكردي الذي أطلقه نجاح الأكراد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تركيا، وقدرتهم على محاربة داعش، وهو ما توضحه جغرافيّة المنطقة التي يدور الحديث عنها. فهذه المنطقة ستكون كفيلة بمنع قيام كيان كردي ثان على الحدود الجنوبية لتركيا التي ترى في التحالف الآخذ في التشكل بين الأكراد والعالم الغربي تهديدا حقيقيا لدورها في المنطقة، وسيكون مقدمة لتغيرات قادمة في الشرق الأوسط ويخنق معارضة الداخل السورية ويوقف قدرة تركيا على مدها بالسلاح والعتاد، كما ستحول بين مناطق سيطرة “داعش” في ريف حلب، الذي يضم نحو 500 ألف من المواطنين السوريين التركمان، وبين الشريط الحدودي، ويمكن أن تتطور الأحداث ويصبح الجيش التركي في قلب حلب التي مازال أردوغان ينظر إليها كولاية عثمانية.
رغم أن حدود هذه المنطقة الآمنة مازالت قيد النقاش، إلا أنها تلقى صدى واسعا لدى أطياف كبيرة من المعارضة السورية التي طالبت بالحماية الدولية منذ بداية الأحداث (جمعة الحماية الدولية) والتي تجد فيها ضرورة لأسباب كثيرة يسقط في سياقها أن التدخل يتم توظيفه بوصفه أداة لخدمة مصالح القوى الكبرى والمتنفذة، وأن هذه المناطق ستكون ملجأ آمنا لقوى مسلحة جديدة تقع على عاتقها مهمة الانتشار وبسط النفوذ وضبط أمن هذه المنطقة، والتي تبرز بينها الحركات التي حافظت على نفسها بعيدة عن الدمغجة الجهادية، ومن بينها “حركة أحرار الشام الإسلاميّة” والفصائل التركمانيّة “كتيبة السلطان مراد وأحفاد الفاتحين”، ومن سيتم إعدادهم من المعارضة المعتدلة، وبهذا تتحول المناطق الآمنة أرضا خصبة لإطلاق مقاتلين جدد يمنعون اتصال الكانتونات الكردية، لكنهم لن يمنعوا شلال الدماء، إنما سيساهمون في إطالة أمد الصراع ومفاقمة الأوجاع.
ما يجري تمهيده في المناطق الآمنة هو تحويل الأراضي السورية إلى كانتونات نار محمية، وسيفتح الطريق نحو إقامة كانتونات جديدة على الجبهة الأردنية في مرحلة لاحقة، لتكون يافطة المناطق الآمنة هي التفاهم البدائي على التقسيم السوري الذي تساهم فيه المعارضة بشكل أو بآخر.
كاتبة ورسامة سورية