عن قابلية شعوبنا للديمقراطية

الاثنين 2015/07/27

دعنا نعترف بأنّ الديمقراطية تعبير “ثقافي” عن مطلب “طبيعي” هو الحرية. على هذا الأساس بوسعنا أن نؤكد أنّ الديمقراطية ليست حالة طبيعية أو فطرية ترتبط بوجود الإنسان، لكنها ثمرة وعي يقظ وإرادة متقدة ومعرفة نقدية وإبداع متجدد.

فعلاً، إننا نولد أحرارا، لا شك في هذا، لكننا في المقابل لا نولد ديمقراطيين، إنّما الديمقراطية شيء نتعلمه ونكتسبه بالممارسة والمثابرة. ولنعترف إذن بأننا نولد بنوع من القابلية الغريزية للتسلط والهيمنة والاستبداد بالرّأي والتقوقع الطائفي والتعصب للرأي وتعطيل ملَكة العقل ومسايرة مزاج القطيع. لذلك تعتبر الديمقراطية كفاحا محتدماً ضدّ نوازع النفس الأمّارة بالعنف والعدوان، ضدّ الغرائز البدائية في الإنسان. الديمقراطية تمرين يومي ودائم في مهارات التفاهم والتحاور والتوافق والتفاوض والتنازل إلخ، بمعنى، مهارات العيش في المدينة. إنّها، في آخر التحليل، ثمرة الاستعمال العمومي للعقل.

بهذا المعنى ولهذا السبب، لا توجد قابلية طبيعية للديمقراطية، وإلا لكانت الديمقراطية تنتصر وتنتشر من تلقاء نفسها وبلا جهد يُذكر. والحال أن الممارسة الديمقراطية حتى داخل المجتمعات الديمقراطية نفسها تستدعي نشاطا ذهنيا، وتهذيبا وجدانيا، وجهدا تواصليا، وكفاحا مدنيا، لأجل ضمان المراقبة والنزاهة والشفافية والمحافظة على أجواء النقاش العمومي وتبادل المعرفة واحترام الحريات الفردية وحماية حرية التعبير.

والجدير بالملاحظة، كلما ضعفت قدرة المواطنين على الانخراط في الشأن العام، تراجعت جودة الديمقراطية، بل قد تشرف الديمقراطية على الهلاك كما حدث في تجارب كثيرة. لذلك، تدرك الدول الديمقراطية اليوم بأن تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات يعني أن الديمقراطية دخلت في دائرة الخطر.

ليست الديمقراطية مجرّد رهان على مواقف وآراء الجمهور، لكنها فعل من أفعال الوعي اليقظ والإرادة المتقدة أكثر من كونها نزوعا طبيعيا أو عفويا، وهي لذلك تتطلب جهدا تنويريا من قبل المثقفين والمفكرين والإعلاميين ومنظمات المجتمع المدني.

الرهان على غرائز الجمهور لعبة خطرة، وفي غير صالح مستقبل الديمقراطية. لذلك استطاع الفكر الديمقراطي المعاصر أن يبدع بعض الاحتياطات الدستورية والمؤسساتية لغاية التقليص من مخاطر الاستغلال الشعبوي لآليات الممارسة الديمقراطية.

من بين تلك الاحتياطات؛ الانتخابات عبر دورتين متتاليتين، التفاوت الزمني بين الانتخابات التشريعية والجهوية، إشراف السلطة القضائية على الانتخابات وتدخلها لفض النزاع بين السلط، نظام الكوتا، التمييز الإيجابي، دسترة حقوق الأقليات، دسترة حرية التعبير، ترسيخ دور المجتمع المدني كسلطة مضادة. هذا يعني أن مفهوم الديمقراطية تطور لأجل حماية المكتسبات الديمقراطية من التقلبات “الديمقراطية” وهو التطور الذي تحقق بفعل إعمال العقل النقدي في مفهوم الديمقراطية.

في كل الأحوال، لا شيء يعلو على سلطة العقل، ولا يمكن توظيف المشروعية الديمقراطية ضدّ حق الإنسان في أن يفكر وأن يعبر. وإذا كانت الدساتير الديمقراطية تصرح في غالب الأحيان بحرية التعبير ولا تصرح بحرية التفكير، فلأنّ حرية التفكير يُفترض أنها مثل التنفّس الطبيعي لا تحتاج إلى تصريح. بل أكثر من ذلك، إنّ التفكير ليس مجرّد حق من الحقوق الأساسية للإنسان، لكنه واجب أخلاقي وإنساني وسياسي في معظم الأحيان، إنه ضرورة من ضرورات التنمية والنماء، بل إنه الشرط الإنساني بامتياز. وضمن هذا الإطار لا يغمرنا شك في أنّ الجهد التنويري للمثقفين المسلمين يتعلق بنقد الموروث الفقهي واللاّهوتي الذي يكبل الأذهان ويشلّ الوجدان، طالما أن معركة الديمقراطية، هي معركة الاستعمال الحر والعمومي للعقل بلا حِجر ومن دون وصاية.

لذلك، نفهم كيف أن الديمقراطية لم تظهر إلا في مجتمعات استطاع كل فرد من أفرادها أن يردد عبارة: أنا أفكر إذن أنا موجود. تلك المقولة بسيطة، لكن نتائجها تصبح ثورية، إذا هي وجدت من يحملها على محمل الجد.

كاتب مغربي

9