علاقات عربية فرنسية واعدة في ظل عالم متعدد الأقطاب

ركزت فرنسا منذ حقبة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي على دول جنوب المتوسط، وعلى رأسها الدول العربية، من خلال مشروع الاتحاد من أجل المتوسط. كما تدعّمت تلك السياسة في عهد الرئيس الحالي فرانسوا هولاند من خلال السعي إلى تمتين العلاقات مع دول الخليج العربي التي بلغت مستويات عالية.
وقد تطورت تلك العلاقات الثنائية، وتزايدت وتيرة هذا التوجه الفرنسي، في الوقت الذي غيّر فيه الأميركيون بوصلتهم على ما يبدو باتجاه المحيط الهادئ وتعزيز العلاقة مع القوى الإقليمية غير العربية، ونهجه نهجا يقطع مع العديد من التزاماته السابقة في توازنات الشرق الأوسط والخليج العربي. فضلا عن اختلاف الطرف العربي والأميركي في تقدير جوانب المصلحة والتهديدات، حيث أنّ حالة الترقب من تداعيات الاتفاقية المبرمة بين الإيرانيين والأميركيين على أشدها، وتُطرح بكل ثقلها في التّحولات القادمة. وهو ما يوحي بأنه من المنتظر أن تتقوى العلاقات الفرنسية العربية على حساب التراجع الأميركي، وتتحول إلى ركيزة في بنية النظام الدولي وتستفيد من فرص التغيرات العالمية في ظلّ ما هو متوفر لفرنسا وللعالم العربي من مقدرات في الأمد المنظور.
دور محدد في أوروبا
يمثل العالم العربي وإقليم البحر الأبيض المتوسط أهمية كبرى بالنسبة لفرنسا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين فرنسا والعالم العربي حوالي 55 مليار يورو سنة 2013، فيما قفز التبادل التجاري الفرنسي الخليجي من 17 مليار يورو سنة 2012 إلى 20 مليار يورو سنة 2014، بزيادة بلغت 10 بالمئة، وهو ما يجعل العالم العربي شريكا اقتصاديا هاما بالنسبة للفرنسيين.
لكن هذه الأهمية الاقتصادية لا يمكن فهمها بمعزل عن أسبابها الجيوسياسية والتاريخية والثقافية، فيما تعرف مجتمعات العالم العربي تحولات متسارعة وتعدد الرهانات السلبية الخاصة بآثار ما سمي بـ”الربيع العربي”، والهجرة غير الشرعية، وحالات انهيار الدول (سوريا وليبيا واليمن)، والاضطراب الواسع في منطقة الشرق الأوسط، وتصاعد الإرهاب، ممّا يجعل منها قضايا مركزية تؤثر في مجريات التعاون العربي الفرنسي.
المواقف السياسية الفرنسية المستقلة عن أميركا في السياسة الدولية تحظى باحترام كبير لدى الخليجيين
ويتوفر الجانب الفرنسي على وسائل تأثير دولية بفضل عضويته في مجلس الأمن وفي المؤسسات الأوروبية الاتحادية، فيما يمكنه الاعتماد على قوة سياسية واقتصادية وثقافية حقيقية تمتد بشكل مباشر إلى عالم فرنكفوني يحتضن حوالي 220 مليون ناطق باللغة الفرنسية في العالم، وامتلاكه لثاني شبكة دبلوماسية بعد الولايات المتحدة، فضلا عن توفّره على قوة عسكرية ضاربة تشمل الردع النووي والقيام بعدة عمليات عسكرية ناجحة. أمّا أهمية الدبلوماسية الفرنسية بالنسبة للعالم العربي، فهي تعزى لاستقلالية القرار الفرنسي وخبرته، ورؤيته المغايرة للعلاقات الدولية، ثم تطورها في بعض القطاعات الحساسة (النووي، الطيران، معالجة المياه، والسكك الحديدية) التي تشكل رهانا حقيقيا للتنمية المستدامة في العالم العربي.
وتتسم السياسة الفرنسية ببحثها المتواصل عن توازن بين استقلالية القنوات الأوروبية والحفاظ على العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية واستمرار الانخراط في الناتو، حيث تقوم تلك على نهج سياسة لا تتبنى التدخل الاستباقي وتجاهل دور المنظمات الإقليمية، بل تسعى إلى نهج سياسة ليبرالية متحررة تقوم على إشراك الحلفاء وإقامة تحالفات جديدة وصداقات بعيدة عن الإملاء والفرض والهيمنة. كما أنها تفضل نهج سياسة ضمان الاستقرار على التحولات العاصفة التي تؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية؛ حيث أصبح لفرنسا دور كبير في إقناع سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية بتبني عدّة مواقف تعدّ في صميم ما كان يعرف سابقا بـ”السياسة الفرنسية العربية”، وتحويلها باتجاه “سياسة أوروبية عربية”، وذلك عبر مشروع “استجابة جديدة لحوار متغير”، الذي أطلقه الاتحاد في مايو 2011.
وتنطلق السياسة الخارجية الفرنسية اليوم من الاعتراف بأنه لم يعد في وسع أي دولة كبرى مهما بلغت من نفوذها على حل المشكلات الدولية بمفردها. ومن ثمة، سعت فرنسا إلى إلقاء كل ثقلها في بناء الاتحاد الأوروبي عبر المحرك الألماني الفرنسي لتعزيز صوتها في الاتحاد، لكنها سعت إلى إدراج عناصر جديدة تقوي دبلوماسيتها التقليدية عبر تطوير دبلوماسية إعلامية وجامعية وزراعية وإنسانية وإعلامية. كما أن فرنسا دفعت في فترة رئاساتها للاتحاد بمسائل أكثر أهمية من الشأن المحلي الأوروبي كمبادرة “الاتحاد من أجل المتوسط” ومجموعة “5+5”، مما كان له بليغ الأثر في تحويل السياسات الوطنية الفرنسية نحو سياسات أوروبية.
وبغض النظر عن التوجه السياسي اللافت الذي طبع موقف فرنسا تجاه المغامرة الأميركية غير محسوبة العواقب التي أفضت إلى غزو العراق، ومواجهة الفرنسيين لذلك التوجه مباشرة في مجلس الأمن سنة 2003، يلاحظ اليوم تغير ملموس في تلك الدبلوماسية مع حالة الانعطاف وتزايد التدخل العسكري الفرنسي في العديد من المناطق، خاصة في مالي لمحاربة خطر التنظيمات الإرهابية وللحفاظ على منطقة نفوذها التاريخية. وقد وافق وزراء خارجية أوروبا سنة 2013، بالإجماع على مساندة كاملة للموقف الفرنسي وتوفير مدربين عسكريين لمساعدة القوات المالية على إعادة سيطرتها على المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية، وهو ما لم يكن ممكنا لولا قدرة فرنسا على إقناع الاتحاد الأوروبي.
55 مليار يورو قيمة المبادلات التجارية بين فرنسا والعالم العربي سنة 2013
ملامح شراكة واعدة
في ظل التطور الحاصل في العلاقات العربية الفرنسية عموما، بدأ التعاون الفرنسي الخليجي يتحول بالتدريج إلى شراكة استراتيجية اقتصادية وعسكرية منذ توثيق التعاون العسكري مع دولة الإمارات في ماي 2009، ودخول اتفاقية تسليح الجيش اللبناني حيز التنفيذ في أبريل 2015، فضلا عن اعتراف هولاند مبكرا بدعم المعارضة السورية بالأسلحة في 2012، والدعوة إلى رفع الحظر عن تصدير السلاح إلى سوريا رغم معارضة بلدان أوروبية. ويكتسي التعاون الفرنسي مع دول مجلس التعاون الخليجي أهمية كبرى، نظرا لأهمية مخزونها الاستراتيجي (30 بالمئة من احتياطي البترول و22 بالمئة من الغاز العالمي)، فضلا عن تواجدها في تقاطع جغرافي قريب من المحيط الهندي وآسيا الوسطى والشرق الأوسط.
وتحظى المواقف السياسية الفرنسية المستقلة عن الولايات المتحدة الأميركية في السياسة الدولية باحترام كبير لدى الخليجيين، علاوة على احتفاظها بتوازن مشهود في القضية الإسرائيلية، وإعلان دعمها لمبادرة العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز سنة 2009، مما فسح المجال لدول مجلس التعاون بتوسيع علاقاتها الدولية التي كانت حكرا على الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
وعلى المستوى السياسي، تشهد العلاقة تقاربا كبيرا بعد أن اتخذت فرنسا مواقف قريبة من توجهات السعودية في موضوع لبنان وسوريا والبرنامج النووي الإيراني، كما فتحت الاتفاقات بين الطرفين المجال للتعاون الأمني. كما أقامت الإمارات بدورها “حوارا استراتيجيا” مع الفرنسيين منذ سنة 2014، يشمل عقد لقاءين سنويا.
وقد أثمر تطور العلاقة بين الفرنسيين والإماراتيين على مستويات عدّة، وخاصة في المجال التجاري؛ حيث بلغت صادرات الإمارات حوالي 4 مليار دولار، في ما تدل كل المؤشرات على ارتفاعها مجددا بفضل العقود التي أبرمت مؤخرا مع الفرنسيين. وقد تطورت العلاقات الثقافية بين البلدين كذلك من خلال تطوير شبكة مدارس وجامعة السوربون أبوظبي ومتحف اللوفر، فيما تم توطيد التعاون العسكري باقتناء معدات عسكرية فرنسية متطورة. وتقضي اتفاقية الدفاع المشتركة تدخل فرنسا العسكري لصد أي هجوم عسكري تتعرض له الإمارات العربية المتحدة، وهو ما أصبح ممكنا بفضل بناء قاعدة عسكرية استراتيجية أطلق عليها “قاعدة السلام”، والتي تمثل ضمانة أساسية في التعاون الدفاعي بين الطرفين.
وتعتبر العلاقة التجارية الفرنسية الخليجية متوازنة، حيث تصدر فرنسا حوالي 3.9 مليار دولار، يلعب فيها تصدير المعدات العسكرية والطيران المدني دورا كبيرا، فيما تشكل واردات البترول القسط الأكبر.
خلاصة القول، بدا واضحا أن الانفتاح العربي على الفرنسيين من أجل تنويع خارطة التحالفات مع قوى دولية متعددة بما فيها الولايات المتحدة يصبّ في مصلحة الدول العربية، وسيساهم في تقليل مخاطر تداعيات الحروب التي فجرتها أميركا بقيادتها الأحادية، لكن توسيع تلك الخارطة لا يجب أن يكون بديلا عن بناء استراتيجية جديدة للعلاقات العربية العربية، وعدم تذويب الهوية القومية والشخصية المستقلة لبلدانهم، حيث لا يجب أن يقع العرب في صيغة جديدة تكرر نفس أخطاء الماضي.
باحث جامعي، مركز أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون.