هل تأثر المودودي بنموذج الدولة اليهودية في التنظير للدولة الإسلامية

كثيرا ما أثار مفهوم “الدولة الإسلامية” ـ الذي اصطنعته جماعة الإخوان المسلمين في بداية القرن العشرين ـ جدلا واسعا في الأوساط العلمية المنشغلة بقضايا الفكر الإسلامي والجماعات الإسلامية، سواء في العالم العربي أو في الغرب؛ حيث يلاحظ أن هناك انقساما بين من يرى أن الإسلام يتضمن مفهوم الدولة، ومن يرى العكس، وكل يبني مواقفه على أسس منطقية مستمدة من إعادة قراءة تاريخ الإسلام. كما أن ذلك السجال كان يرتكز على قراءة معيّنة للتجربة التاريخية للمسلمين، بما فيها مرحلة النبوة، وما إن كانت ضد بناء الدولة بالمعنى المعاصر أم لا، وما إن كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد أسس دولة؛ بالرغم من أن التمحيص العلمي الدقيق في هذه المسألة يظهر لنا بأن الأمر لم يكن يتعلق بـ”دولة” أو “لا دولة”، بل بالنبوة، وبأن كلمة “البعثة” ـ التي تشير إلى زمن النبوة ـ لم تكن عبارة سياسية بما يفيد أن النبي عليه السلام أرسل لمهمة بناء الدولة، بل كانت عبارة دينية تفيد بأنه عليه الصلاة والسلام بعث لمهمة الهداية.
الفكر الإسلامي ومفهوم الدولة
إن إشكالية الدولة في الفكر الإسلامي الحديث من أعقد الإشكاليات التي أثيرت ولم تجد بعد العناية الرصينة والمتأنية. فقد ظهر مفهوم الدولة في القرن الماضي من خلال الانفتاح على التجربة السياسية الغربية الحديثة، وليس من خلال الاستنباط من تاريخ الإسلام؛ لذلك فإن المفهوم نُقل من العصر الحديث إلى التراث القديم ولم ينبثق من هذا الأخير نحو العصر الحديث، بل تم إدماجه قسرا في الإسلام.
هناك شبه إجماع بين الباحثين المعاصرين على أن العرب لم يعرفوا مفهوم الدولة، وإلا لكانوا استعملوه في أدبياتهم، علما وأن الفقه السياسي الإسلامي ثري بالمفاهيم التي صيغت في ضوء التجارب التاريخية لكن مفهوم الدولة لا يجد موقعه بينها. والسبب في رأينا أن المسلمين كانوا يدركون المضامين السلبية لكلمة الدولة في اللغة القرآنية، لأن المكان الوحيد الذي وردت فيه الكلمة في سورة الحشر “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ” منحها دلالة قدحية بسبب ورودها في موضع النهي. وربما جاز القول بأن ترجمة العبارة اللاتينية “Etat” في اللغة الفرنسية، و”State” في اللغة الإنكليزية، و”Estado” في اللغة الأسبانية، إلى “دولة” في اللغة العربية، لم يكن سليما؛ ذلك أن الكلمة في السياق الفكري ـ الديني الغربي المسيحي ارتبطت بالصراع بين السلطة المدنية ممثلة في الإمبراطورية ثم في الملكية، والسلطة الدينية ممثلة في الكنيسة، ولذلك فهي كانت تعني “حالة الحكم السياسي”، مقابل “حالة الحكم الديني” التي تمثلها الكنيسة، التي كانت تجمع في يدها الهيمنة على الشؤون الدينية والسياسية للناس، قبل أن تصبح اصطلاحا على الدولة بالمعنى المتداول.
المودودي أثر على أتباع الحركات الإسلامية، فصارت نظريته في الدولة الإسلامية الأساس لهذه الحركات ومواقفها السياسية
يدل على هذا أننا عندما نتحدث عن الدولة الأوروبية مثلا لا ندخل الكنيسة في تصورنا لها، فعندما نتحدث عن فرنسا، على سبيل المثال، نعني السلطة السياسية دون الكنيسة، لكن إذا أردنا أن نتحدث عن هذه الأخيرة استعملنا عبارة “الكنيسة الفرنسية”، أو “الكنيسة الأسبانية”، وهكذا... ومن الناحية الفلسفية، فإن الإسلاميين عندما يستعملون عبارة الدولة يكونون قد سقطوا في تناقض صريح مع البنية المفاهيمية التي يزعمون أنهم ينطلقون منها، لأن العبارة تعني “حالة الحكم السياسي”، فيما هم يعنون بها الحكم الديني والسياسي معا، استنادا إلى مقولتهم المعروفة “الإسلام دين ودولة”، وهي مقولة غير واعية، في ضوء التفسير أعلاه. فنحن عندما نستعمل مثلا عبارة (Etat civil) مثلا نترجمها بعبارة “الحالة المدنية” للشخص، بينما الكلمة في الأصل تعني حالة الحكم المدني، النقيض لحكم رجال الدين.
نشأ مفهوم الدولة الإسلامية في العصر الحديث مع الحركة الإسلامية كرد فعل على الواقع التاريخي الجديد بعد سقوط الخلافة العثمانية، لكنه ظهر بالدرجة الأولى كمحطة مرحلية في طريق إعادة هذه الخلافة، بسبب تفهم الصعوبات التي تحول دون ذلك الهدف.
وقد وضع حسن البنّا، مؤسسة جماعة الإخوان المسلمين على رأس أهداف الجماعة استعادة الخلافة الإسلامية، حيث أكد على أن الإخوان “يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات”. غير أن البنّا وضع استعادة الخلافة كهدف استراتيجي فقط، ولذلك صب اهتمامه على الحديث عن الدولة في إطار ما سماه “الفهم الشامل للإسلام”، الذي عنى به أن الإسلام “عبادة وقيادة، ودين ودولة ومصحف وسيف”.
ومن الواضح أن البيئة الفكرية والسياسية التي كان يتحرك في إطارها البنّا كانت بيئة مشحونة بالقلق، فقد عاش مؤسس الجماعة في ظروف انتقالية صعبة في مصر والعالم العربي، كان من الضروري أن تنعكس على تصوراته وأن تؤثر في مواقفه، ولم يكن من الممكن أن يفكر خارج ذلك الإطار. لقد نشأ البنا في مجتمع تتجاذبه تيارات مختلفة، منها الأيديولوجية ومنها الضاربة في الانعزالية مثل الدعوة الفرعونية، ورافق الجدل الذي أثاره كتاب الشيخ علي عبدالرازق “الإسلام وأصول الحكم” الذي قام بين المعسكر الذي يقول بأن الإسلام لم يؤسس دولة بالمعنى الحديث، والآخر الذي يؤكد بأن الإسلام يتضمن قواعد بناء الحكم السياسي، ومنه الدولة؛ كما عايش التحضيرات الأولى لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، على أساس الدين؛ وعندما اغتيل عام 1949 كانت تلك الدولة قد قامت قبل ذلك بنحو عام، كما أنه عاش في مرحلة تميّزت بارتفاع النغمة الأيديولوجية في التعامل مع كل ما هو فكري وديني، بسبب الصراع بين معسكرين اشتراكي ورأسمالي، وكان أمامه نموذجان للدولة العقائدية، الأولى في فلسطين هي الدولة اليهودية، والثانية في الاتحاد السوفييتي وهي الدولة الاشتراكية.
|
المودودي والدولة العقائدية
وإذا كان البنّا قد تأثر بذلك المناخ الفكري والسياسي السائد في عصره في دعوته إلى بناء دولة إسلامية على أساس عقائدي، فإن النموذج الأكثر وضوحا لهذا التوجه في الموجة الأولى للحركة الإسلامية هو أبو الأعلى المودودي.
ويمثل المودودي المثال الأبرز للدعوة إلى الدولة العقائدية بشكل جلي ودون مواربة. فبالإضافة إلى نفس المؤثرات الموضوعية التي أثرت في فكر البنّا، كانت هناك مؤثرات أخرى ذاتية في حالة المودودي جعلته يندفع في ذلك المنحى.
وقد انخرط هو نفسه ضمن حركة تطالب بعودة الخلافة الإسلامية في بداية مشواره الفكري والسياسي عندما كان يشتغل في الصحافة، هي “حركة الخلافة” التي أسسها الشيخ محمد علي جوهر، ثم انتقل بعد ذلك إلى إنشاء “الجماعة الإسلامية” في الهند؛ وكان أول من استخدم عبارة “الدولة الإسلامية”، لأنه كان يرى ضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس وإنشاء دولة خاصة بهم، ومن هنا تولّد لديه المفهوم العقائدي للدولة، الذي نقله عنه آخرون في مناخ سياسي مختلف وجعلوه مطلبا لهم في مجتمع منسجم دينيا وعرقيا.
كانت أمام المودودي نماذج للدولة العقائدية، كما كانت أمام البنّا، فحاول من ثمة اقتباس التجربة وبسطها على الإسلام، بيد أنه لم يعتبر تلك خصوصية تخص مسلمي الهند لظروفهم التاريخية والسياسية المتميزة بسبب كونهم أقلية مضطهدة، بل جعلها قاعدة للعمل السياسي في الإسلام بشكل عام، لذلك كان من الطبيعي ـ نظرا لأبوة المودودي للعديد من الأفكار والمفاهيم لدى الحركة الإسلامية ـ أن يتم استنساخ مفهوم الدولة الإسلامية والتأصيل له.
اعتبر المودودي أن من خصائص “الدولة الإسلامية” أنها دولة “فكرية مؤسسة على مبادئ وغايات معينة واضحة”، لكنه بعد أن قرر بأن نظرية الدولة الفكرية “ما زالت ولا تزال غريبة لا يعرفها العالم ولم يستأنس بمزاياها”، سرعان ما انقلب لكي يؤكد بأن المسيحية “قد تراءت لها صورة منها مبهمة غامضة، ولكنها لم يتسن لها نظام فكري تام يمكن أن تؤسس الدولة على قواعده”، وأن الشيوعية “تبث الدعاية لمبدأ الدولة الفكرية في أول أمرها، وقد سعت إلى تأسيس دولة على أساس هذا المبدأ، حتى بدأ العالم يستأنس به ويتفطن لما يشتمل عليه من حسنات، إلا أنه قد دب دبيب الوطنية الملعونة في عروقها أيضا”، قبل أن يقول بجزم “فالإسلام هو المنهاج الفكري الوحيد الذي يمتاز من بين الأفكار والمذاهب بأنه يقيم على أساس الفكرة فحسب نظاما للدولة مطهّرا من العصبيات الجنسية وأقذارها”.
المودودي، إذن، يرى أن الإسلام هو “المنهاج الفكري” الوحيد الذي يستطيع أن ينجح في ما فشلت فيه المناهج الفكرية الأخرى ومن بينها الشيوعية، ويعتبر أن الثورة الفرنسية كانت ثورة عقائدية، بينما هي كانت على العكس من ذلك ثورة على الدولة العقائدية.
نشأ مفهوم الدولة الإسلامية في العصر الحديث كرد فعل على الواقع التاريخي الجديد بعد سقوط الخلافة العثمانية
ويرى أن المسيحية كانت تريد أن تنشئ مثل هذه الدولة ولكنها فشلت، بينما المسيحية لم تسع إلى إنشاء مثل هذه الدولة وإنما الدول الإمبراطورية التي قامت هي التي كانت تخطب ودّ المسيحية لجعلها دين الدولة، وحين يتحدث عن “المنهاج الفكري” فهو يعني الأيديولوجيا، أما عندما يتحدث عن “الدولة الفكرية” فهو يقصد الدولة العقائدية.
ونظرا للمناخ السياسي الذي ألمحنا إليه أعلاه، والذي كان يتميز بصراع الأيديولوجيات ـ السياسية والعرقية ـ ونجاح بعضها في إنشاء دولة مثل الشيوعية والنازية والصهيونية، فقد كان لا بد أن يتشرّب فكر الحركة الإسلامية جانبا من تأثير هذا الصراع في تلك الفترة. فالمودودي لا يكتفي بإيراد النماذج التاريخية الماضية أو الحديثة لمحاولات إنشاء الدول الفكرية، بل يستند على النص الديني لتأصيل مفهوم الدولة الإسلامية. ففي كتابه “الحكومة الإسلامية” ـ الذي أفاد منه الخميني ووضع كتابا بنفس العنوان عام 1977 ـ يفسر كلمة سلطان في الآية رقم 80 من سورة الإسراء “وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا” بالسلطة.
تجديد الفكر الإسلامي
وقد أثّر المودودي بدوره على الكثير من أتباع الحركات الإسلامية في العالم العربي، وصارت نظريته في الدولة الإسلامية الأساس الذي بنت عليه هذه الحركات مواقفها السياسية، بالرغم من أنه تعرض لانتقادات قوية حتى داخل الهند نفسها ـ قبل إنشاء باكستان ـ بالنظر إلى الغلو الذي طبع نزعته السياسية في تفسير النصوص القرآنية، وكان من بين منتقديه أبوالحسن الندوي ووحيد الدين خان مؤلف “الإسلام يتحدى”، حيث قال عنه في كتابه “خطأ في التفسير”: إن اعتراضي في الواقع هو على شرح وتفسير الهدف الإسلامي كما قدمه الأستاذ المودودي في مؤلفاته، والذي يقول: إن المقتضى الحقيقي للدين وهدف المؤمنين هو السعي إلى إقامة حكومة إسلامية في هذه الدنيا.
إن هذه الفرضية التي بنينا عليها هذه الدراسة قد تثير بعض الانتقادات من الأوساط المنتسبة إلى الجماعات الإسلامية، نظرا لأن القول بحضور نموذج الدولة اليهودية في ذهنية صناع فكرة الدولة الإسلامية يبدو مصادما للكثيرين.
ولكننا نؤكد أن الخطوة الأولى على طريق تفكيك خطاب الإسلاميين في المجال السياسي تبدأ من جرأة التناول وإعادة النظر في بعض المفاهيم التي أصبحت بديهية لا يطالها الشك. ونعتقد أن التحولات الأخيرة «والخطيرة أيضا} التي يجتازها الإسلام المعاصر، لا بد أن تحل عقال الفكر العربي الإسلامي لكي يعيد النظر في ذاته بشكل جذري، بعيدا عن القداسة التي أضفيت على عدد من القضايا.
كاتب ومفكر من المغرب