فتنة البشر في تغيير المنكر

الاثنين 2015/07/20

لماذا لا يُذكر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلا في الحرب على الحريات الفردية؟ لماذا لا يُشهر هذا الأمر إلا في وجه النساء والأقليات والفنون؟ لماذا لا يُذكر تغيير المنكر إلا حين يبتغي البعض احتكار الفضاء العمومي؟ لماذا لا يُرفع شعار تغيير المنكر إلاّ لتستيقظ الفتنة النائمة تحت الرّماد؟ سنحاول مقاربة الإجابة بدءا من النص المرجعي أوّلا:

“ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”، هكذا تقول الآية القرآنية التي يحاجج بها أنصار فريضة “تغيير المنكر”. وقد اختلف الفقهاء حول دلالة كلمة “منكم”، هل هي للتّبعيض (ليكن بعضكم) أم للتّعميم (لتكونوا كلّكم)؟ هذا الاختلاف النّحوي يحمل خلافا فقهيا كبيرا. ففي الحالة الأولى يكون الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن البقيّة؛ وفي الحالة الثانية يصبح الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرض عيْن على كل مسلم (المسلمة لست واثقا من أمرها). ومرّة أخرى، فإنّ لهذا الخلاف الفقهي نتائج اجتماعية وسياسية حاسمة.

في الحالة الأولى يجب على كل مسلم أن يغير المنكر متى رآه، ربما بلسانه إن لم يستطع، ربّما بقلبه على أضعف الإيمان، لكن بيده أولا وقبل كل شيء، ومن ثمّ بكل ما قد تحمله اليد من أدوات الضّرب والعنف، وهذا ما يسميه المغاربة من باب القدح بـ”شرع اليَدَين”، يقصدون الحالة التي يتطوع فيها شخص ما لكي يطبق “الشرع” بنفسه وكما يراه. وأما في الحالة الثانية فتبقى المسؤوليات محددة درءا للفتنة، إما تحت إشراف نوع من الشرطة الدينية (المطاوعة في السعودية مثلا)، وإما تحت إشراف السلطة القضائية (قانون الحسبة في مصر مثلا)، وإما تحت إشراف ميليشيات شعبية (رابطات حماية الثورة في تونس إبان فترة حكم الترويكا مثلا). غير أنّ المعضلة ليست في تحديد من المكلف بتغيير المنكر هل الناس أم الدّولة أم القضاء أم طرف آخر؟ بل تكمن المعضلة في أننا نتعامل مع مفاهيم قانونية بلا تحديد.

فإذا تجاوزنا الجرائم التي لها قوانين ومؤسسات أمنية وقضائية تتكفل بها، تبقى الأسئلة مفتوحة: ما المنكر؟ وما معايير تحديد المنكر؟ ما المعروف الذي يجب أن نأمر به الناس؟ ومن الآمر؟ ومن المأمور؟ وهل يأمر الجميع الجميع بمناسبة وبلا مناسبة؟ وما دلالة الأمر؟ ثم، وقبل كل شيء، ما الخير؟ لأنّ الآية تقول “ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”، فيبدأ الأمر بالدّعوة إلى الخير أوّلا. غير أنّ مفهوم الخير شبه غائب عن موروثنا الفقهي، وقد استُبدل بمفهوم المصلحة، وتُرك الخير كمفهوم متعال ومجرّد للفلسفة الإسلامية (ابن سينا، الفارابي، ابن رشد، ابن عربي).

لاشكّ أنّ غياب مفهوم الخير العام قد جعل مفهوم السلوك الحسن مزاجيا وغريزيا طالما لم يتم تحديد مفهوم الخير العام والذي هو الإطار المرجعي لتحديد معايير السّلوك الحسن. ومثلا، حين نجد مئات “المحسنين” يساهمون في تمويل بناء مسجد أو تمويل “الجهاد” ولا أحد منهم يساهم في شراء جهاز لتصفية الدم لأحد المراكز، رغم أن الفارق في الفعل الإحساني يتعلق بإنقاذ حياة عشرات الناس، فهذا يعني أن مفهوم الخير العام غائب عنّا غيبة كبرى، وأن العملية الإحسانية مصلحية بالمعنى الضيق؛ لأنّ “المحسن” الافتراضي أخبروه بأن من بنى مسجدا في الدنيا بنى الله له بيتا في الجنة، ولم يخبروه شيئا عمن اشترى جهازا لتصفية الدم لمرضى الفشل الكلوي، أو من بنى مختبرا لتطوير أبحاث القضاء على مرض السرطان مثلا.

لدينا مشكلة في تحديد مفهوم الخير، ما الخير؟ معضلة ثقافية مستعصية. لهذا السبب لا نستطيع تحديد دلالات المعروف والمنكر. هناك دعوى يزعمها البعض وهي الاحتكام إلى الضمير، من قبيل أن يقال لك: هل ترضاه لأختك؟ هل ترضاه لأمك؟ هذا ليس احتكاما للعقل. هذا احتكام للغرائز، غرائز الغيرة والنصرة والحمية. وهذا أسوأ ما يُهدد ثقافة المؤسسات ودولة الحق والقانون. اعترف أنّ الخير العام مطلوب باسم العقل وباسم الأخلاق وباسم التضامن الإنساني وباسم العيش المشترك لكنه لا يُدرك بالغرائز، وبالأحرى لا يُدرك بواسطة تهييج الغرائز البدائية للغوغاء، بل يُدرك بواسطة العقل. و

لم يفكر الفقه التقليدي في مفهوم الخير، بل استبعده مقابل مفهوم المصلحة أو المصالح، ومن ثم لم توضع معايير لتحديد الفعل المعروف والفعل المنكر. مما كان يفتح أبواب الجحيم ويوقظ نيران الفتنة كلما انبرت طائفة من الناس لتغيير ما تراه منكرا. وبالمناسبة، هناك من علماء الدين والدّعاة والوعاظ من لا يألو جهدا في إعداد الأجواء لقبول منع الاختلاط في شعيرة الطواف أثناء مناسك الحج. وفي غياب دليل من القرآن ومن السنة، تبقى حجته “الاجتهادية” هي نفس حجة الفصل بين الجنسين داخل المساجد. فإن كان الاختلاط أثناء الشعائر الدينية مقبولا في زمن الرّسول حيث المسلمين قلة مشهود لهم بـ”الزّهد ودماثة الخُلق”، فإنّه ما عاد مقبولا اليوم حيث كثرت أعداد الخَلق و”تردّت” أخلاق الخلف. وقد سمعت بعضهم يستدل بأن الأمويين حاولوا منع الاختلاط في الشعائر المقدسة لكنهم فشلوا بسبب عدم “تفهم” الناس.

مرّة أخرى، لا يقصد دعاة تغيير المنكر مكافحة الجريمة أو المخدرات أو السّرقة أو التهرّب الضريبي أو تبييض الأموال والتي يتكفل بها القانون ومؤسسات الأمن والقضاء، وإنما مقصودهم احتكار الحقّ في الفضاء العمومي، وإعلان الحرب على أفعال شخصية لا تمثل ضررا على أحد، أفعال لا يشملها القانون الجنائي، ولا تشملها مدونة الأحوال الشخصية، ولا يشملها الدستور، من قبيل اللباس، الحجاب، طريقة المشي، التزيّن، .

تلك الحرب القذرة على الحريات الشخصية تناقض روح الإسلام وتندرج ضمن بقايا المعتقدات البدائية عندما كانت العشيرة البدائية تخاف من انتقام الآلهة من كل العشيرة بسبب أفعال بعض الأفراد. غير أنّ الإسلام يقوم على قاعدة مختلفة “ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى”.

كاتب مغربي

9