مفهوم "الجهاد" والوعي الجمعي المختطف

التنظيمات الإرهابية تستند إلى شبكة كثيفة من المفاهيم الدينية التي تم تحريف معانيها ومراميها، واختطافها من سياقاتها التاريخية التي نشأت فيها، من ذلك أن الاستعمال الرائج لمفهوم الجهاد في أدبيات التيارات الإرهابية يحصل لإضفاء مشروعية على العنف الديني الممارس من قبلها ولتيسير استقطاب العناصر المؤهلة لتنفيذ العنف "الشرعي".
الاثنين 2015/07/20
التنظيمات الإسلامية المتطرفة تفتري على مفهوم الجهاد

في خضم الجرائم الإرهابية التي يرتكبها تنظيم داعش في دول عدة بشكل مستمر، هناك توظيف لافت لأحد أهم المفاهيم في الفكر الإسلامي وهو مفهوم “الجهاد”، فالتنظيم يحاول تسويق جرائمه ضد المساجد الشيعية باعتبارها “جهادا” من أجل السنة، الذين يعانون جراء ممارسات تنظيم داعش بل هم في صدارة ضحاياه، ما يفرغ دعاوى التنظيم في هذا الشأن من مضمونها.

على الجانب الآخر هناك خطاب إيراني يحاول ترويج أفكاره حول ارتباط التطرف بالفكر الديني السني، وتحديدا المذهب السائد في دول عربية بعينها، قفزا على حقائق الواقع التي تؤكد وقوف إيران وراء روح الكراهية والعداء المذهبي الذي استشرى في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، كنتيجة لسياسة الحرب بالوكالة التي تنتهجها طهران في دول عربية عدة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها، حيث تتدفق الأموال الإيرانية على تنظيمات شيعية مسيّسة موالية لإيران وتعمل لمصلحتها دون أدنى اعتبار للولاءات الوطنية وقواعد الاستقرار الاجتماعي في تلك الدول.

هذه الأجواء التي أوجدتها إيران وولد من رحمها تنظيم داعش هي التي تقف وراء الفوضى العارمة في دول عدة بالشرق الأوسط خلال المرحلة الراهنة. والمؤكد أن بيئات الكراهية المذهبية والطائفية هي الحاضنة الرئيسية لأي فكر متطرف سني أو شيعي، ومن ثمة يصبح الخلاص من هذه الأعراض رهن القضاء على البيئة الحاضنة لهذا الفكر.

صحيح أن جهود نشر الوسطية وقيم التسامح والاعتدال تبدو في غاية الأهمية، ولكن هذه الجهود ربما تظل محدودة الأثر ما لم تبذل جهود موازية من أجل تفكيك الخطاب التحريضي والطائفي والإرهابي على الجانبين السني والشيعي، ومن يريد فهم الخطر العميق لهذا الخطاب، يمكن أن يتابع ما تبثه قنوات بعينها على فضائيات تابعة أو مموّلة لدول وتنظيمات بعينها، كي يدرك حجم الشحن الطائفي الذي يقود العالم العربي والإسلامي إلى هاوية صراع ديني عميقة.

ربما يرى البعض أن الخطاب الديني يحتاج إلى تنقية منذ سنوات وعقود مضت، ولا تبذل جهود كافية على هذا الصعيد، فيما يرى آخرون أن هناك مفاهيم ذات صبغة عقائدية حساسة يتم توظيفها في التحريض مثل الجهاد والحاكمية وغير ذلك، وهذا صحيح إلى حد كبير ولكن الحساسية التي تغلف هذه المفاهيم لا تعني، مطلقا، ترك الساحة لأبواق الشحن الطائفي بما تنذر به من شر مستطير، بل ينبغي تفكيك الخطاب الإرهابي المتشدد سواء صدر عن أشخاص أو فضائيات شيعية أو تنظيمات وجماعات سنية متطرفة.

(الجهاد) من المفاهيم التي لم تحصل على ما تستحق من اهتمام الباحثين، حيث تعرض للاختطاف من قبل الإرهابيين

“الجهاد” من أبرز المفاهيم الحركية التي لم تحصل على ما تستحق من اهتمام الباحثين وعلماء الدين الإسلامي الحقيقيين، حيث تعرض هذا المفهوم إلى اختطاف علني من قبل المتطرفين والإرهابيين، ممّن يتاجرون به علنا وليل نهار دون أي محاولة جادة لوقف فوضى التفسير والتأويل والتقول وتحميل هذا المفهوم ما يفوق طاقته والمقصود منه وما ينطوي عليه من رمزية دينية هائلة.

الكل يرفع راية الجهاد وينطق بخطاب يوصف بالجهادي ويتبنى فكرا يوصف هو الآخر بالجهادي، بل إن هناك من الباحثين من يخطئ، عن غير قصد، ويسمي التنظيمات الإرهابية بالتنظيمات الجهادية، ويربطها بشكل واضح بفكرة الجهاد ومفهومه ومراده الديني، بل يضفي على ممارسات هذه التنظيمات نوعا من المشروعية الدينية غير المطلوبة، ومن ثمة فإن مفهوم الجهاد المختطف من قبل الارهابيين هو أكثر المفاهيم والمصطلحات الإسلامية التي تبدو بحاجة ماسة وملحة إلى إعادة تعريف وضبط اصطلاحي ومفاهيمي، كي يمكن التفرقة بين الجهاد كمفهوم وأمر إلهي حقيقي، وبين ما تفعله هذه التنظيمات من فساد وإفساد في الأرض.

هذا الدور التنويري هو دور علماء الدين الحقيقيين الذين لم يبذلوا ما يكفي من جهود، حتى الآن، لتعرية الفكر المتطرف وفضحه وكشفه، بل يكتفون في معظم الأحيان بإدانته والبراءة منه مع أن عقول الأجيال الشابة الجديدة تبدو بحاجة إلى مدخلات عقلانية توازي في قوة تأثيرها ما يصدره الطرف الآخر (الإرهابي) من تأويلات وتفسيرات ترفع شعار الدين لاستقطاب العواطف الدينية الجياشة لدى صغار السن والشباب واستلاب عقولهم.

ما يروّجه منظّرو الجماعات الإرهابية حول مفهوم “الجهاد” يفتقر إلى فقه الواقع، ويستند إلى فتاوى أئمة الإسلام في مراحل تاريخية مغايرة وظروف مختلفة قد لا يصلح معها استدعاء هذه الفتاوى وتطبيقها في المرحلة الراهنة بكل معطياتها وظروفها، وفي ظل غياب أي توضيح ذا مصداقية لحقيقة المفهوم وكيفية تطبيقه بمختلف درجاته ومعاييره وعوامل المسؤولية المرتبطة به، تبقى الساحة الدعائية خالية أمام أئمة الشر ودعاة الفتنة ممّن اتخذوا من مفهوم “الجهاد” سبيلا لتحقيق أهدافهم ومصالحهم.

تزداد خطورة الترويج بشكل خاطئ لمفهوم الجهاد في حالة استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لأن هذه الوسائل الحديثة توفر للعناصر الإرهابية إمكانية الالتفاف على الملاحقة الأمنية واستقطاب متعاطفين جدد وتحوّلهم إلى خلايا نائمة أو “مشروع انتحاري” يمكن أن تتحول في لحظة ما إلى انتحاري فعلي طالما توافرت له ظروف معيّنة، وهذا الخطر الجديد هو ما يطلق عليه الذئاب المنفردة، التي تتحرك بقرار ذاتي دون تنسيق مباشر مع القيادات المركزية لتحقيق أهداف يتم الترويج لها تنظيميا وأيديولوجيا عبر فترات طويلة نسبيا.

13