عباس - دحلان: جدل خارج النقاش
لا عجب أن تمر براكين المنطقة المتفجرة منذ اللحظة البوعزيزية في تونس على طقوس السلطة في فلسطين. ولئن غابت انتفاضة الشارع على النظام السياسي الفلسطيني، على ما جرى في مصر وتونس واليمن وسوريا، فإن الانقسام الفلسطيني الداخلي بين منطقتين وسلطتين وأجندتين لا يترك للشارع التفلت من سطوتهما أو الخروج عن قواعد لعبتهما.
حتى إشعار آخر، ستبقى غزة بعيدة عن الضفة وسيبقى الخلاف متجذرا في علاقة رام الله بغزّة. حركة حماس تعيش مأزق وجود وبقاء منذ أن أطاحت الرياح المصرية بحكم الإخوان في القاهرة، ومنذ أن عطّلت الكارثة السورية سيرورة العلاقة مع إيران. وحركة فتح تعيش يومياتها أسيرة شروط الحكم والسلطة، وتستيقظ كل صباح على مزاجيات رئيسها في تقريب هذا وتهميش ذاك وإبعاد ذلك.
في رام الله يسود همس كثير عن خلافة أبو مازن. الرجل ثمانيني، وسبق أن عبّر عن زهد بالسلطة، واعدا بعدم الترشّح لها من جديد. لكن محمود عباس ما زال الرئيس، وسيبقى، في غياب التوافق بين فتح وحماس، وبالتالي في غياب اتّفاق على إجراء انتخابات جديدة تأتي ببرلمان ورئيس.
في يوميات الرئيس الفلسطيني قليل مما يتعلّق بفلسطين، قضية تحرر أرض وشعب، وكثير مما يرتبط بإدارة صراعات السلطة وترتيب كواليسها. في ذلك أن النخبة الفتحاوية الحاكمة باتت تعاني من خواء مقلق وانحدار في مستوى مواجهة استحقاقات المرحلة، بتاريخية مفاصلها التحوّلية، في المنطقة برمّتها.
بعض التقارير تحدثت أن مسألة خلافة أبو مازن تتعدى أروقة رام الله وأن عواصم بدأت تناقش الفرضية وتتحرى البدائل. في الأوساط الفلسطينية من يعتبر أن الانقسام الفتحاوي الراهن بين محمود عباس ومحمد دحلان مردّه أساسا تلك الهمّة الإقليمية الدولية لترتيب ما بعد أبو مازن. بات واضحا أن الدعم العربي الغربي قد تراخى حول الرئيس الفلسطيني، دون أن يظهر إجماعا واضحا على بديل بعينه. يدرك عباس ذلك فيبادر إلى شنّ حرب لا هوادة فيها على المنافس الأبرز محمد دحلان.
في عدّة الحرب يغرف الرئيس الفلسطيني من زاد وفير مما في أبجديات العرب التقليدية. ما بين “العمالة والفساد” مرورا بالتلميح بما هو غامض في وفاة أبو عمار، يقذف عباس ما تيسّر وما لا يتيسرّ في اتجاه القيادي الفتحاوي الشاب. يمارس أبو مازن سلطته، وربما سطوته، كرئيس لنزع حصانة دحلان البرلمانية ولطرد الرجل من اللجنة المركزية لفتح. تتساءل فتح كيف للجنتِها المركزية أن تخضع لمزاجيات الرئيس، وكيف لفتح أن تطلق النار على قدمها، فتمعن في الانقسام على نفسها بعد الانقسام مع حماس.
لا يوفّر محمد دحلان فرصة لردّ الصاع صاعين لرئيس فتح والسلطة ومنظمة التحرير. فالرئيس “خالص الصلاحية” بعرف دحلان، ويخفي ملايين حملها إليه سلام فياض بعد وفاة عرفات (يتحدث عن 600 مليون دولار)، ولا يرى السلطة إلا بما يتناسب مع مصالح ولديه، حسب روايته. وفي ما يتجاوز حفلات الردح والردح المضاد، فإن الحرب بين الرجلين تنبسط داخل الأوساط الفلسطينية، الفتحاوية خاصة، في الضفة والقطاع، كما في الشتات. في ذلك أن شخصيات ومؤسسات وقطاعات باتت “ساقطة” في يد دحلان، فيما يكافح أبو مازن التمدد الدحلاني بحملة تطهير ضد أي شبهات قد يشتم منها انقلابا على حكمه وزعامته.
في يوميات رام الله إطاحة بمؤسسات يشرف عليها سلام فياض، رئيس وزراء أبو مازن ووزير مالية أبو عمار. قيل إن لبّ الأمر يتّصل باحتمالية الرجل خليفة لمحمود عباس، وأن لفياض علاقة ما مع دحلان. لم توافقْ محكمة العدل العليا على تدابير عباس، بل إن نسخا مسرّبة عن التحقيقات أشادت بدقة الإدارة المحاسبية وشفافيتها ونزاهة مراميها. في المقابل، ردّت محكمة الاستئناف استئناف النيابة العامة حول قضية دحلان، فثبّتت بذلك استمرار الحصانة التي يتمتع بها، ذلك أن المحكمة لم تر مسوغا مقنعا لنزع الحصانة عنه. بدا، في حالتي فياض ودحلان، أنه تمرّد قضائي علني على نزوات الرئيس الفلسطيني، بما يعبّر عن تصدّع أصاب مناعة النظام السياسي الفلسطيني، يعكس جانبا منه قرار عباس بإقالة ياسر عبدربه من منصبه داخل منظمة التحرير مؤخرا.
لا يبدو الانقسام الفتحاوي بين عباس ودحلان عاموديا. ظهر أن دحلان يمتلك علاقات داخل صفوف من هم مفترضون داخل المؤسسات الخاضعة للرئيس الفلسطيني. وإذا ما أخذت الاصطفافات أشكالا ضبابية في الضفّة والقطاع، فإن حدود الانقسام باتت جلية واضحة لدى الفتحاويين في لبنان. قلقت بيروت على استقرار أمن المخيمات وتوازن الوجود الفلسطيني في لبنان جراء الاصطفافات الحادة بين عباسيين ودحلانيين، إلى درجة تبرّع مدير الأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم بالتوسط للمصالحة بين الرجلين. لكن كان واضحا أن حجم الهوة بينهما لا تردمها مواهب الوسيط اللبناني.
في غياب البرامج والخطط والاستراتيجيات المتعلّقة بمستقبل فلسطين ومستقبل الاحتلال، يجوز لهذه الحرب أن تنشب وتمتد دون رادع. الرادع الإقليمي منشغل باليوميات الداعشية الزاحفة بأوجهها وعناوينها المختلفة، فيما مزاج المنطقة غير مرتاح لقيادة عباس وغير ممانع لخلف ما. فشل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في إقناع عباس بمصالحة دحلان، ربما أن أبو مازن خشي من ذلك المدخل المصري (الإقليمي) الداعم لدحلان أن يكون مؤشرا لانقلاب على حكمه.
يمتلك دحلان علاقات إقليمية ودولية واضحة. عرف الرجل كيف ينسج شبكة تواصل مع واشنطن كما مع موسكو كما مع عواصم كبرى. يعرف الرجل قيمة تلك العلاقات فيستثمرها “لدول محترمة وفق معايير شرعية”، وفق ما يعلن. لا يخفي أنه “مهندس” العلاقات الجديدة بين مصر وإثيوبيا، فتعكس علنية الموضوع اعتراف الطرفين بذلك. ولا يواري علاقاته المتقدمة مع صربيا التي أهدته وساما ومنحته جنسيتها. من عنكبوتية تلك العلاقات يجيد دحلان الإطلالة على الشأن الفلسطيني (فتحت علاقات دحلان وحماس المتقدمة نقاشا وجدلا داخل حماس وأثارت ريبة إضافية لدى عباس).
بين عباس ودحلان تاريخ شخصي يمحض الخلاف جانبا شخصيا. يجاهر دحلان بأنه ساهم في جلب أبو مازن وإقناع أبوعمار به و”فرضه فرضا” إبان صراعات الحكم في عهد الرئيس الراحل، وبالتالي فإن انقلاب أبو مازن عليه فيه خيانة لمواثيق وتعهدات وطعن في سيرة مشتركة. في ذلك الجانب الشخصي الذي لا ندرك خفاياه ما يجعل من دحلان خصما خطيرا على “مملكة” عباس. على أن الاتهامات المتبادلة عن ملايين دحلانية وتلك التي هبطت على أبناء الرئيس تبدو روتينية في لغة التناطح، على نحو لا يهزّ سكينة الفتحاويين. كما أن استخدامها أداة للمبارزة بدا غير ذي شأن، في معركة يختلط فيها الواقعي بالعاطفي والموثّق بالمزيّف.
في التصريح، محمد دحلان لا ينوي الترشح للرئاسة. وفي التصريح أيضا، محمود عباس زاهد بها. لكن دحلان الذي تفتح له منابر القاهرة للهجوم على خصمه في رام الله، أطلّ في آخر هجماته من على منبر أردني (غامزا من قناة جبريل رجوب معيبا عليه التصويت لمرشح غير عربي في انتخابات الفيفا)، بما قد يعتبر، في علم الحساب، علامة أخرى من علامات المزاج الإقليمي حيال أبو مازن.
قد تكون كل العلامات أعراض مخاض يجري الإعداد له لعلّ في الولادة ما يخرج بما يتناسب مع سياق أو قد يأتي بما قد يخرج عن أي سياق.
صحفي وكاتب سياسي لبناني