توحش الدولة: صدى الخلافة المتخيلة في الذهنية السلفية المتشددة

الجمعة 2015/07/03
الخلافة المبتغاة من قبل الإسلامويين صورة للدولة المتوحشة

منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، في بداية القرن الماضي، وإجهاز كمال أتاتورك على مؤسسة الخلافة ـ التي كانت قد أصبحت آنذاك مجرد مؤسسة صورية ـ عام 1924، والعقل الإسلامي لا يكف عن استعادة موضوع الخلافة بوصفها حلما يتعيّن العمل من أجل تحويله واقعا ملموسا على الأرض؛ وقد وجد هذا العقل نفسه في صراع مع ذاته تجاه مسألتين: الأولى هي الدولة الوطنية، فهو استقبل هذا المولود الجديد وتفاعل معه تنظيرا وممارسة، والثانية هي مسألة الخلافة، إذ ظل هذا العقل مشدودا إليها بالرغم من تسليمه بواقعية الدولة الوطنية الجديدة؛ فعاش هذا العقل الإسلامي مفارقة كبرى لم يفلح في الفكاك منها.

وبقدر اتساع حجم التنظير للدولة الحديثة، بقدر ما كان يتسع التنظير للخلافة بالموازاة مع ذلك، إلى حد أن النموذجين معا ـ نموذج الدولة التي تحقق التقدم والرخاء والنهضة ونموذج الخلافة التي تحقق الوحدة السياسية للأمة ـ عاشا متجاورين عقودا من الزمن في الوجدان العربي الإسلامي الحديث والمعاصر؛ بيد أنه في كل مرة كان يتجلى فيها فشل الدولة في القضايا الكبرى للأمة، كان حلم الخلافة يتضخم باطّراد.

فهم رواد الإصلاح الأوائل، في بداية القرن الماضي، قضية الخلافة بحسبانها قضية وحدة سياسية تجمع شتات الأمة الإسلامية، وفي القلب منها الجنس العربي، على أساس مبادئ معيّنة تضيف القيم الدينية الكبرى إلى القيم الحديثة، في صيغة حضارية جديدة هي ما عبر عنه هؤلاء بالنهضة أو النهوض.

وربما لعب المعطى المتعلق بمعايشة تجربة سقوط الخلافة دورا في بلورة هذا التصور الواقعي، الذي لقي تجاوبا من لدن البلدان العربية وقتها؛ إذ أدرك المصلحون الأوّلون أن الخلافة لم تكن إنجازا سحريا متعاليا يمكن التشبّث به، بقدر ما كانت عملا بشريا يطاله النقص والقصور، وفق المبادئ التي تحكمه لا الشعارات اليوتوبية التي تسكنه في الذهنية العامة للمسلمين. هذه الواقعية في التعامل مع قضية الخلافة هي ما دفع مصلحا كعبدالحميد بن باديس إلى القول بكل جرأة، عشية انهيار الخلافة العثمانية “فيوم ألغى الأتراك الخلافة ـ ولسنا نبرر كل أعمالهم ـ لم يلغوا الخلافة الإسلامية بمعناها الإسلامي، وإنما ألغوا نظاما حكوميا خاصا بهم وأزالوا رمزا خياليا فتن به المسلمون لغير جدوى”.

غير أن قضية الخلافة شهدت تحولا في العقل العربي الإسلامي بداية من العقد الثاني من القرن الماضي، بعد نشأة جماعة الإخوان المسلمين المصرية، التي جعلت حلم الخلافة من واجباتها الرئيسة التي يجب العمل من أجلها. فقد مثلت تلك النشأة بداية القطيعة مع الفكر الإصلاحي السابق، لصالح نموذج فكري ـ سياسي جديد، أعاد رفع موضوع الخلافة إلى سماء التجريد، بعد أن كان المصلحون السابقون قد أنزلوها إلى أرض الواقع البشري.

ازدواجية الدولة والخلافة ظلت تسكن هذا الفكر الجديد لدى الجماعات الإسلامية، التي نشأت حول موضوعة الخلافة نفسها وعلى هامش جماعة الإخوان في مختلف الأقطار العربية

وإذا كان رواد الإصلاح قد شرطوا موضوع إعادة الخلافة بالعمل الفكري والثقافي، وفتح الحوار مع البلدان العربية، للبحث عن صيغ معيّنة للتوافق لإعادة إحيائها، فإن جماعة الإخوان قد أصبحت تربط موضوع استعادة الخلافة بالعمل السياسي والعسكري، أي أن عنصر الإكراه دخل فكرة الخلافة، فنقلها من البعد الرضائي، إلى البعد القسري.

بيد أن ازدواجية الدولة والخلافة ظلت تسكن هذا الفكر الجديد لدى الجماعات الإسلامية، التي نشأت حول موضوعة الخلافة نفسها وعلى هامش جماعة الإخوان في مختلف الأقطار العربية. فبالنظر إلى حالة التوتر المعيشة بين الاثنتين في العقل الإسلامي، الدولة والخلافة، وجدت الجماعات الإسلامية نفسها مضطرة إلى خلق نموذج مركب بينهما، نموذج يوفق بين واقع الدولة الحديثة القائمة وحلم الخلافة، ومن ثمة نشأت فكرة “الدولة الإسلامية”، كحصيلة للجمع بين الواقع والحلم.

ما حصل، في هذه العملية التركيبية، هو تعليق الخلافة على شرائط الدولة. وتفسير ذلك، أنه إذا كانت الدولة هي نظام العنف الشرعي والإكراه، فإن الخلافة ينبغي أن تكون أيضا مبنية على هذا النظام عينه، أي أنها يجب أن تؤسس على العنف والإكراه. وإذا كان العنف في مفهوم الدولة الحديثة مرتبطا بالمشروعية السياسية، فإن العنف في المفهوم المتخيّل للخلافة ينبغي أن يستند على المشروعية الدينية. هنا تم إخراج الخلافة، كمؤسسة ذات محتوى أخلاقي، من مضمونها الديني إلى المضمون السياسي، فأصبح ما هو مباح للدولة الحديثة مباحا للخلافة.

هذا ما نراه اليوم في ما يسمّى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”؛ إنه واقعية الدولة التي تتعايش مع الخلافة المتخيلة في الذهنية السلفية المتشددة. فبإلغاء المحتوى الأخلاقي للخلافة، أصبحت هذه الأخيرة حزمة من الإجراءات الإدارية التي يعبّر عنها مسمى “الدولة”، ممثلة في أعمال القتل وقطع الرؤوس وبتر الأيدي وحرق الأحياء؛ وبهذا الإلغاء للبعد الأخلاقي للفكرة، تتحول الخلافة إلى نموذج للدولة النازية، التي هي ثمرة لمفهوم الدولة الحديثة في الفكر الغربي، الدولة التي ترى أن عملها الوحيد الذي يمتلك الشرعية هو العنف والإكراه؛ وبهذا الاعتبار يمكننا أن نلاحظ ـ من الناحية الفلسفية ـ أن التعايش المزدوج بين الدولة والخلافة في الذهنية السلفية المتطرفة قد أخلى مكانه لمفهوم متوحش للدولة، مفهوم يوظف فكرة الخلافة في خدمة وحشية الدولة، مثلما وظفت النازية فكرة التعالي العرقي، والشيوعية فكرة المجتمع الاشتراكي، أداة في يد الدولة المتوحشة.

13