المسحراتي: مشترك عربي إسلامي متصل برمضان ومهدد بالنسيان

المسحراتي مهنة تحل مع شهر رمضان وتأفل بانتهائه كما هو الحال بالنسبة للسحور -وجبة يتم الإعلام عنها- وللكثير من العادات والتقاليد الخاصة بهذا الشهر، غير أن تطور التكنولوجيات ووجود الساعات المنبهة زاحما المسحراتي في دوره، فبدأ يختفي من أغلب المدن والأحياء والقرى العربية إلى درجة يمكن معها القول بأنه بات من التراث العربي المنسي.
الاثنين 2015/06/29
مهنة المسحراتي تقدم صورة متكاملة عن العادات العربية الرمضانية

القاهرة- يوقظ المسحراتي بطبلته أو مزماره وصوته الشجي وبكلماته الداعية للتقوى والنشاط الصائمين ليتناولوا وجبة السحور قبل الإمساك ورفع آذان الفجر. هذه المهنة “الموسمية” كانت ضرورية في حياة المسلمين لارتباطها بالصيام وسنة السحور. ونظرا لأهمية المسحراتي فما كان ليغيب عن الأحياء ولا القرى العربية حيث ارتبط لدى المسلمين بالجانب الروحي والعبادة والصيام ورسخ في الأذهان كإحدى الصور الجميلة الممتدة من أعماق العادات والتقاليد العربية بالإضافة إلى طابعه الفني الخاص.

ويختلف المسحراتي من دولة إلى أخرى شكليا لكن الرسالة تظل واحدة وغالبا ما يمثل أحد مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان، فكل مسحراتي يلبس الزي التقليدي الخاص بالدولة التي يمارس فيها نشاطه، كما يستعمل آلة موسيقية خاصة بذلك المكان، ورغم أن الطبلة هي في الأغلب الآلة المستعملة في جل الدول العربية، إلا أن هذه الآلة تختلف في الشكل والحجم وحتى الزينة من دولة إلى أخرى، كما يختلف المسحراتيون في الكلمات والأناشيد التي يتم التغني بها لتحفيز الناس على الاستيقاظ فلكل جمله الخاصة أو أبياته الشعرية الخاصة بجانب اللهجة المختلفة من دولة عربية إلى أخرى.

وعادة ما يختار أهل الحي أو القرية أو البلديات (في عصر الراهن) المسحراتي حسب شروط معينة منها قدرته البدنية على المشي مسافات هامة والجولان في المدن والقرى بمختلف أحيائها مع الإنشاد والغناء المتواصل ما يتطلب قوة بدنية معينة. وهو غالبا ما يكون واحدا منهم يعرفهم ويعرفونه جيدا ويثقون به، وفي بعض الدول العربية يختار المسحراتي من الأشخاص الذين يحتاجون لمثل هذه المهنة لتساعدهم في توفير دخل مادي إضافي يساعدهم في الحياة. كما يعتبر الصوت الشجي والعذب من بين أهم خصائص المسحراتي حتى لا يمثل مصدر إزعاج للمتساكنين.

ويعشق الأطفال الصغار رونق المسحراتي الفني وصوته وكلماته وهيئته ولباسه وطبلته فيستيقظون من النوم بحماسة ليشاهده وكأنه استعراض فني يغريهم بالفرجة. هكذا تعلق صغار الأمس -كبار اليوم- بالمسحراتي وأصبحوا يحنون له كعادة رمضانية اندثرت أو تكاد في أغلب الدول العربية التي صرفتها الوسائل التقنية الحديثة عن توظيفه، إذ يرى كثير من شباب اليوم أنه مصدر للإزعاج خاصة إن كانوا ممن يفضل السهر إلى أن يحين موعد السحور غافلين عن أهميته الثقافية والتاريخية.

المسحراتي ارتبط لدى المسلمين بالجانب الروحي كما رسخ في الأذهان كواحد من العادات والتقاليد الرمضانية

المسحراتي يكتسب جمالية خاصة لدى كل من عايش وجوده في الحارات والقرى فمهنته تعد من المهن الفنية التي تعتمد على الميزان الموسيقي والإيقاع والغناء، وتتشابه إيقاعات الطبلة بين أغلب الدول العربية -حتى في حال اختلف حجمها وشكلها وبالتالي صوتها- وكثيرا ما تتشابه أيضا الجمل المرددة وأشهرها “إصحى يا نايم وحّد الدايم”، و”قوموا لسحوركم جاء رمضان يزوركم” هذه العبارات انتشرت في العصر الحديث لكنها لا تختلف كثيرا عن نداءات العصر القديم حيث كان المسحراتي يطوف الشوارع مرددا: “عباد الله تسحّروا فإن في السحور بركة”، و”إصح يا نايم وحد الدايم وقول نويت بكره إن حييت الشهر صايم والفجر قايم أصح يا نايم وحّد الرزاق”.. وأحيانا كان يتغنى ببعض القصائد والأشعار المكتوبة خصيصا له.

وفي مصر نجد صدى المسحراتي في الحكايات الشعبية القديمة مثل حكاية “أبوزيد الهلالي”، و”ألف ليلة وليلة”، ورغم ظهور الأجهزة الذكية والمنبهات، إلا أن المسحراتي ما زال متواجدا ولم يندثر من الحارات والقرى المصرية. أما في سوريا فيسمى “المُسحّر” وهو لا يختلف كثيرا عن المصري عدا في اللهجة والأغاني وكان يطرق على البيوت ويعزف على العيدان والطّنابير وينشد أناشيد دينية، أما في المغرب واليمن حيث تطلق عليه بعض المناطق تسمية “المفلّح” فقد كان يدقّ الأبواب بالنبابيت، وفي تونس كان يسمى “أبوطبيلة” كما في الإمارات، وهو “الطبال” في الثقافة الشعبية اللبنانية.

وكان المسحراتي يؤدي هذه المهنة مقابل مبلغ مالي متواضع يناله آخر أيام شهر رمضان أو أول أيام عيد الفطر أو يضعه له المتساكنون مع بعض الهدايا والصدقات أمام أبواب المنازل.

المسحراتييختلفمن دولة إلى أخرى شكليا لكن الرسالة تظل واحدة وغالبا ما يمثل أحد مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان

أما في السنوات الأخيرة فقد انتشر المتطوعون للقيام بهذه المهنة رغبة منهم في حفظها وحمايتها من الاندثار لكنهم لاقوا بعض الانتقادات لخروجهم عن تفاصيل المهنة التقليدية فكان بعضهم يرتدي الجينز بدل الجلابيب ويتجولون في الأحياء على متن السيارات وأحيانا يستعمل بعضهم مكبرات الصوت وآلات التسجيل لتردد أغاني دينية شعبية وأدعية رمضانية.

أما تاريخيا فيذكر أن المسلمين في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا يعرفون وقت السحور ووقت الإمساك بأذانين أولهما لتنبيههم للسحور قبيل الفجر، وثانيهما لصلاة الفجر، وبعد ازدهار الحضارات المتعاقبة على المسلمين ابتكرت مهنة المسحراتي في العصر العباسي، إذ تفطن الصائمون في ذلك العهد إلى ضرورة إيجاد من يوقظهم كي لا يفوتوا وجبة السحور التي تساعدهم على إتمام يومهم في الصيام والاقتداء بالسنة النبوية.

وظهر أول مسحراتي عام 853 م في عهد الخليفة المنتصر بالله، ويرجح مؤرخون أن “عتبة بن إسحاق” والي مصر في تلك الفترة أول من نادى بالسحور، حيث كان يطوف شوارع القاهرة ليلا في رمضان لإيقاظ المسلمين. وكان “المسحراتي” في العصر العباسي يحمل طبلة صغيرة يدقّ عليها بقطعة من الجلد أو الخشب، ومعه طفل صغير يحمل مصباح لإنارة الطريق، وكانت النساء تترك له على باب منازلهن قطعة نقود معدنية ملفوفة داخل ورقة، فيأخذها ويدعو لأصحاب البيت.

المتأمل في العادات والتقاليد العربية الرمضانية يتأكد له أن بعضها بدأ يتغير أو يندثر وخاصة منها مهنة المسحراتي التي بدأت تشيخ بعد أن أهملتها الأجيال الشابة اليوم ولم تنتبه لقيمتها التاريخية ولرونقها التراثي الفني الذي يطبع الخصوصية والهوية العربية الإسلامية في الأجيال الصاعدة.

12