تقلص الحضور اليهودي في المجتمعات العربية لا يحجب إسهامهم التاريخي

الدار البيضاء (المغرب)- تعتبر نسبة اليهود دوما ضئيلة إذا ما قارناها بالتعداد العام لسكان كل دولة من الدول العربية، كما يحمل عدد هام منهم جنسيات غير عربية وهو ما تؤكده إحصائيات اليهود في الجزائر ومصر حيث كانت الأغلبية الساحقة من اليهود تحمل جنسيات أجنبية، وكانت نسبة الأجانب منهم عالية جدا في طنجة والمغرب وتونس، في حين تقل نسبة اليهود الأجانب في العراق وتكاد تنعدم في اليمن وعدن.
عموما اشتهر اليهود في الدول العربية بانسجامهم وتعايشهم السلمي مع بقية مكونات المجتمع المختلفة عنهم في الديانة وفي العادات والتقاليد ولعل ازدهار تجارتهم وأنشطتهم الحرفية والفنية تقدم دليلا قاطعا عن هذا الانسجام وتقبل العرب لهم رغم الاختلاف.
ورغم ما يسجله التاريخ من هجرات لليهود بسبب الحروب والنزاع حول الأرض ورغم تصاعد خوف اليهود وفقدان الأمان خاصة في الدول التي تشهد اليوم صعودا للتطرف والتشدد الديني إلا أن عديد العائلات اليهودية ما زالت متشبثة بمواصلة حياتها في المدن العربية التي تعتبرها أوطانها وتحمل جنسياتها وحتى إن غادر بعضهم فإن إرثهم وبناياتهم ومعابدهم وحاراتهم ما زالت قابعة في ذات المكان لتحكي ماضيهم كمكون ثقافي لا يتجزأ عن بقية مكونات المجتمعات العربية.
وحسب الدراسات التاريخية فقد كانت لليهود تجمعات في جنوب شبه الجزيرة العربية واليمن، واشتهر منهم ملوك حمير، ويقال إن يهود اليمن هم أقدم يهود العالم. وكانت المدينة المنورة تضم تجمعا يعد من أكبر تجمعات اليهود في شبه الجزيرة وكذلك في خيبر وفي العراق والشام.
يهود العراق قدر عددهم مطلع القرن التاسع عشر بنحو 2500 أسرة في حين كان تعدادهم يناهز 90 ألف نسمة عام 655 ميلادي وهذا الانخفاض لم يكن مقتصرا على العراق بل شمل جل الدول العربية التي تواجدوا فيها. ومنذ عام 1870 تحرك اليهود نحو الجنوب، وشهد عام 1910 بداية تركهم لأحيائهم الخاصة وازدياد اختلاطهم بالمسلمين، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى.
المتحف اليهودي في الدار البيضاء يعد الوحيد من نوعه في الوطن العربي، ويحتوي بعض مكونات التراث المغربي اليهودي المحلي
أما يهود سوريا فقد قدموا من الأندلس ومن أوروبا واستقروا في المدن السورية الكبرى، مثل دمشق وحلب، في حين ترجع أصول يهود لبنان إلى أسبانيا حيث دخلوا لبنان في بدايات القرن السادس عشر وسكنوا بعض المناطق الجبلية والمرتفعات مثل دير القمر والمختارة وعين زحلتا وراشيا وجزين.
ومنذ عام 1950 أخذت أعداد اليهود في التناقص لأسباب اقتصادية وسياسية وبسبب الحروب وتدهور الأوضاع المعيشية للدول العربية وبذلك تواصلت هجراتهم حتى أنهم أصبحوا لا يتجاوزون العشرات في عديد الدول العربية مثل ليبيا رغم أن هذه الدول دعتهم إبان موجات هجراتهم إلى العودة إلى بلدانهم ومنها مصر والعراق وليبيا ذلك أنها تعتبرهم جزءا أساسيا من نسيجها الاجتماعي شأنهم في ذلك شأن بقية المواطنين.
كما استطاعت إسرائيل جذب غالبية يهود الدول العربية بفضل الدعاية الإعلامية واستغلالها لوضعيات الدول العربية المضطربة وقد تواصلت دعوات إسرائيل لاستقطابهم حتى في السنوات الأخيرة فمثلا بعد ما شهدته مصر وتونس والمغرب من اضطرابات أمنية ومن صعود للطائفية وصعود للإرهاب والتشدد كررت إسرائيل دعواتها لليهود للالتحاق بها بدعوى توفير الأمان والعيش الكريم.
ونشط اليهود في الدول العربية في مجالات التجارة والمهن الحرفية وقد عرفوا تاريخيا بذكائهم وبقدراتهم في الحساب والإقناع والتسويق ما جعل غالبيتهم ينجحون في أعمالهم ويتمتعون بالثراء وقد تعاونوا واستفادوا كما أفادوا جيرانهم المسلمين وتعامل الجانبين بشكل إنساني ودون تمييز. هذا هو الحال بالنسبة لليهود في تونس مثلا، حيث يبلغ تعدادهم حوالي 2000 شخص يقطن غالبيتهم في العاصمة تونس وفي جزيرة جربة الواقعة جنوبي العاصمة وما زالت مدارسهم قائمة إلى اليوم في تونس وكذلك معابدهم وحاراتهم.
وكذلك أكبر معابدهم وهو كنيس الغريبة الذي يشهد سنويا تدفق عدد هام من اليهود من جميع أنحاء العالم لأداء طقوس حجهم وهو يحمل أبرز ميزات الثقافة اليهودية في المعمار والأثاث واللوحات الفنية والرسوم ويعدونه الحاضنة الأكبر لعاداتهم وطقوسهم وعباداتهم. كما لليهود في جربة تاريخا عريقا في الحرف والفنون خاصة في صنع المجوهرات وصقل الذهب والطبخ وغيره.
اليهود يعيشون وما زالوا يعيشون حياة طبيعية كبقية مواطنيهم من المسلمين وحتى من بقية الأطياف
وعاش اليهود وما زالوا يعيشون حياة طبيعية كبقية مواطنيهم من المسلمين وحتى من بقية الأطياف فتكاد لا تلاحظ فرقا بينهم وبين بقية المواطنين سواء في تونس أو في المغرب أو في لبنان عدا بعض الألبسة التي تميزهم عن غيرهم والتي غالبا ما يرتدونها أثناء العبادة. بينما يكاد جانب هام من إرثهم الثقافي والمادي يضمحل أو يندثر في دول مثل ليبيا والعراق.
ومن أبرز المعالم اليهودية في المغرب نجد المتحف اليهودي الذي يعد الوحيد في الوطن العربي ومقره الدار البيضاء ويحتوي على بعض مكونات التراث المغربي اليهودي المحلي والحلي والجواهر وعلى كل ما يتعلق بالعبادات والتقاليد الدينية اليهودية للمغاربة وعلى جميع تسجيلات المغنين اليهود وأعلام الطرب والغناء اليهودي في المغرب. كما نلاحظ في المدن المغربية أعدادا هامة من الملاحات أي الأحياء اليهودية التي تعج بالحياة إلى اليوم وكذلك لديهم مقابرهم الخاصة.
أما في العراق فقد ترك اليهود عديد المعالم الأثرية والتاريخية أبرزها مراقد الأنبياء مثل مرقد النبي دانيال ومرقد حنينة ومرقد عزرا ومرقد ناحوم كما نجد سوق دانيال، وكذلك تعج مصر بالعديد من الآثار اليهودية نظرا لتواجد اليهود بها لفترات طويلة ولعل أبرزها المعابد اليهودية ذات الطابع المعماري والزخرفي الخاص مثل معبد بوابة السماء ومعبد بن عزرا ومعبد إلياهو وكذلك معابد الإسكندرية.