خداع الذاكرة وتخيلات الوطن الضائع

الأحد 2015/06/28

تستعبدنا الذاكرة حين نفقد الماضي وحين نفقد وطنا ومأوى، تعذبنا الذاكرة بحنينها النوستالجي إلى أماكن منسية وأماكن لم تعد موجودة في واقع الأمر، لكن الذاكرة تستحضرها بطريقة ضبابية خادعة وتمنحها أشواقنا أبعادا مبالغا في جمالياتها، عندها يتفجر الحنين وربما الدمع والأشواق المكبوحة داخل أرواحنا وهي تطلق شحنة عاطفية فائضة وتثير موجات إضافية من الحنين والعذابات المريرة والشهية معا، فكأننا نستعذب تلك المشاعر الجارحة في محاولة الإفلات من حاضر قلق.

لم أستطع ان أخترع بلدا على طريقة إيزابيل ألليندي التي حاولت في كتابها الممتع “بلدي المخترع” تعويض الفقدان الفاجع للوطن بتحويله إلى متن لغوي، تحويل الأمكنة والمتع الذاوية والحنان القديم والروائح إلى محض كلمات محلقة في الفراغ عبر اختراع صور وهمية له، قد نحاول إعادة خلق وطن مُضيّع ونؤسس أركانه في أعماق ذواتنا، في عملية خداع واعية نرتضيها ونعتنقها من أجل ان تهدأ أمواج الحنين في أرواحنا القلقة، الذاكرة تخدعنا وتوقعنا في فخ الجمال المفقود لمرابع طفولتنا وتستحضر في لحظة رؤية خارقة روائح الأمكنة العتيقة التي صنعت ذائقتنا من مجموع الروائح الطبيعية المحيطة بنا: عبير الورد الجوري وأريج طلع النخيل الساحر ورائحة الطمي على ضفاف الأنهار، وعبق التراب حين تعانقه مزنة مطر أو عبير أشجار البرتقال وهي تعيد إنتاج الربيع كل عام فتفوح بأعذب الشذا الأرضي الذي لا يضاهي سحره وأثره فينا سوى لوعتنا في فقدانه.

حاولت إيزابيل ألليندي اختراع وطن من صور وروائح وتخيّلات عاطفية مفرطة في ضبابيتها، ولكن هل كانت بحاجة فعلا إلى أن تخادع نفسها وتلوذ بالذاكرة المشحونة بالأوجاع والآلام؟ هل أحاول في غربتي اقتفاء خطاها في اختراع الوهم؟ هل أجرب اختراع وطن من أوهامنا عنه؟ وكيف يتجاوز المرء ما تحاصره من وقائع موجعة تخلخل الصور المتخيلة وتسخر من تصوراتنا عن جماليات وطن الروح؟ هل نتوقف عن ابتكار وطننا الذي نحلم به لنتذكر شظاياه الغائرة في لحمنا؟ ونمارس عشقنا الجارح والمازوشي لأوطاننا المخذولة؟ أم نتوقف عن عملية الخداع المبرمجة التي نلجأ إليها هربا من عذاباتنا ومكابدات المحنة التي تقضم أجراف قلوبنا؟

تتضخم أوهامنا عن جماليات أوطاننا -التي تغرّبنا قسرا عنها- على نحو دراماتيكي كلما أوغلنا في زمن التغرّب وحاولنا تقبّل اقتلاعنا الجائر، نواجه أنفسنا مرارا بهذا الكشف الواعي للوهم، لكن النفس تتمرّد على الحقائق التي نواجهها بها وتتقبل كما فعلت إيزابيل ألليندي هذا الوهم الذي يفاقم أشواقها، وتنحت صورة عاطفية مفرطة في الشجن والإشفاق والتوق إلى وطن جميل مضيّع.

يغدو الوطن المنظور إليه عن بعد يوتوبيا مفقودة ممتدة عبر تاريخ طويل جدا توغل بداياته في العمق الزمني البعيد وتنتهي عند سنيّ الطفولة التي اكتشفت الحنان والمتع البريئة والجمال والألفة والحماية ورعاية الأسرة في المكان الغائب المستحضر بالتوهم والتذكر المبالغ فيه، وتلك تصورات لا تمّت بأية صلة إلى واقع الوطن وتحوّلاته إلا في ما تتوهمه ذكريات طفولتنا وصبانا.

يقول فيكتور هوجو في كتابه “رسائل من المنفى”: إن أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان المنفي هو التفكير في شيء آخر دائما. ويضيف هوجو: ومع ذلك فإن للمنفيين حسادا يتمتعون بإهالة التراب على المنفي، ظنا بأنه يتنعم في وطنه المستعار.

كاتبة من العراق مقيمة في عمّان

11