أقليات سوريا.. الخوف من المجهول يدفع نحو خيار الحياد المر

السبت 2015/06/27
النظام يرعب الأقليات من المجهول ويوحي لها بأن مصيرها مرتبط بمصيره

منذ انطلاق الثورة السورية قبل أكثر من أربع سنوات اتّخذت الغالبية العظمى من الأقليات الدينية والعرقية في البلاد موقفا حياديا من الاحتجاجات، وفضّلت النأي بالنفس، طبعا باستثناء الطائفة العلوية. وفي حين انتقدت المعارضة السورية ذلك الحياد إلاّ أنّها لم تهاجم الأقليّات ولم تحاول التأثير عليهم بالقوة لتغيير موقفهم. وعلى الرغم من أنّ السياق الطبيعي يفيد بأن أيّ انحياز يمكن أن يحدث سيكون إلى جانب الشعب وقوى الثورة، بعد كل العنف الذي استخدمه النظام والذي حوّل الثورة إلى حرب، إلاّ أنّ الملاحظ اليوم أنّ الانحياز يحدث تجاه النظام وليس تجاه الثورة.

قبل أي شيء، ولقطع الطريق أمام المنتقدين والذين سيعتبرون التعميم تعصّبا فكريا أو أيديولوجيا، لا بد من الاعتراف أن هناك استثناءات في الموضوع، فالبعض من المعنيين وقفوا في عين العاصفة وكانوا ثوارا، فكريا وسياسيا وأحيانا نادرة عسكريا، وفي الغالب كانوا حالات فردية، وهم قاب قوسين من صلب الموضوع.

كان يعيش في سوريا نحو مليوني مسيحي قبل الثورة، أي ما يقارب 8 بالمئة من السكان، ربما أصبحوا الآن 5 بالمئة بعد موجات هجرة، وهم ينحدرون من أصول عرقية وقومية مختلفة، ويتوزعون على 12 طائفة أو مذهب كنسي. وبسبب التنوع في المجتمع المسيحي السوري وعدم تجانسه السياسي والفكري، لا يمكن الحديث عن رؤية مسيحية واحدة للأزمة السورية، لكن عموما يمكن القول بأن الشارع المسيحي كان متعاطفا مع الثورة لكنه لم يُشارك فيها بشكل مقبول، وتلخص ردة فعل الأوساط المسيحية في موقفين؛ الأول داعم ومؤيد للثورة وأهدافها المتعلقة بالحرية والديمقراطية والكرامة وإسقاط النظام الاستبدادي، مثّلته نخب سياسية مسيحية، والثاني داعم للنظام وتمثّله المؤسسة الكنسية التي تهيمن عليها طبقة الإكليروس التي تخلّت عن الحقوق السياسية لصالح “حقوق الله”، وهؤلاء ساعدوا النظام على إرعاب رواد الكنيسة من سلبيات الثورة، ثم جاءت التنظيمات الإرهابية التكفيرية لتُكمل ما لم يُنجز من قبلهم أو من قبل النظام، وراح غالبية المسيحيين في الآونة الأخيرة ينسجون ترابطا عضويا بين التنظيمات الجهادية وبقية المعارضين السوريين، ويصفون كل ثائر بأنه (داعشي)، بما يُشبه الظاهرة العامة.

كذلك يُشكّل الدروز نحو 3 بالمئة من السكان، وهم يعيشون في محافظة السويداء جنوب سوريا بشكل أساسي، ولم يشاركوا في الثورة منذ بدايتها، وأعلنوا أنهم سيقفون على الحياد لأنهم أقلية تخشى على حاضرها ومستقبلها، والتزموا بشكل عام بتعليمات كبار شيوخهم، مع بعض الاستثناءات التي تعاطفت مع شركائهم في المواطنة المنشودة. وعلى الرغم من أن الكثير من الشباب الدروز انضموا إلى ميليشيات النظام وساعدوه في عملياته الحربية والقمعية، إلا أن الثوار تفهّموا خوفهم هذا وغضّوا النظر عن انزياح بعضهم نحو النظام، مفترضين أنّ الأول سيزول بزوال الثاني وسقوطه، فهم لم يكونوا جزءا عضويا من النظام طوال عقود، لكنّ وعلى عكس ذلك فقد رفض الدروز، مؤخرا، إسقاط مطار عسكري يحتوي على “براميل الموت”، وكان قرارا غير موفق ويعرقل خطط الثوار، كما استمر شبابهم في الالتحاق بـ”سوق الشبيحة” متجاهلين الكثير من التحذيرات. وحتى عصيانهم عن الالتحاق بالجيش ورفضهم للخدمة العسكرية، لا يمكن اعتباره موقفا لدعم المعارضة وإنما هي بالأساس خطوة للحماية الذاتية ليس إلاّ.

النظام يسعى إلى إقناع الأقليات بأن الثورة جاءت لتقضي على التنوع الديني والقومي والعرقي في سوريا

أما الأكراد، الذين يُعتبرون أكبر أقلية عرقية بعد العرب، والذين يُشكّلون نسبة 10 بالمئة تقريبا من السكان، ورغم أنّهم ثاروا على النظام إلا أنّ ثورتهم تلك كانت باتجاه آخر، فقد فضّلوا أن يحموا أنفسهم ويقيموا تحالفات مع من يحقق لهم مصالحهم، التي تتعلق أساسا بإقامة فيدرالية خاصة بهم أو منحهم حكما ذاتيا أو أي تسمية أخرى تؤدي نفس الغرض، ورفضوا التشاركية مع المعارضة المسلحة، واشترطوا على كل تجمع سياسي معارض أن يضع حقوقهم القومية على أولوياته كشرط للدخول في هذه التجمعات، واليوم نرى تجليات أهدافهم ترتسم على الأرض بـ (كانتونات) عرقية قومية صرفة لا علاقة لها لا بجوهر الثورة السورية ولا بما يريده السوريون.

هذا الأمر يمكن سحبه على أقليات أخرى أقل عددا وتأثيرا، كالآشوريين السريان والإسماعيليين والشركس مع اختلافات في المواقف بالكم لا بالنوع، ودائما مع استثناءات كانت كافية لتشفع للمجموع بنظر المعارضة.

ولا شك أن النظام السوري هو أصل العلّة، فقد حاول منذ انطلاق الثورة استغلال الأقليات إلى أبعد حد، وأوحى لهم بأن مصيرهم مرتبط بمصيره، وأن الثورة جاءت لتقضي على التنوع الديني والقومي والعرقي في سوريا، ونجح في خطته إلى حد بعيد، فوقف إلى جانبه علويو سوريا وشيعتُها بالمطلق، فيما قرر البقية الوقوف على الحياد.

وقد روّج النظام منذ البداية إلى أنّ المتظاهرين هم إرهابيون، وأن هناك مؤامرة ضد سوريا، وحاول تخويف الأقليات من الخطر القادم من الإسلاميين، رغم أن أي تنظيم إسلامي مسلّح أو متطرف لم يكن موجودا في سوريا حينها، وادّعى بأنّه حامي الأقليات، ووضع الشعب والعالم أمام خيارين، إما القبول به على سيئاته أو الدخول تحت راية القاعدة وأخواتها.

وقد ارتكبت الأقليات، بدورها، خطأ حين اعتبرت أنها مستهدفة من بقية السوريين، وهذا الافتراض يحمل كثيرا من الظلم، فالثورة التي بدأت قبل أربع سنوات وحوّلها النظام السوري إلى حرب لم تقم ضد الأقليات ولم تستهدفهم، بدليل أن مسيحيي سوريا وإسماعيلييها ودروزها وبقية الأقليات الأخرى لم تستهدفهم الغالبية السنّية التي تعتبرها تلك الأقليات وقودا للثورة المناهضة للنظام وذراعها الضارب، واحترمت المعارضة السياسية السورية تلك الأقليات وأصرّت على ضمان وجودها وتمثيلها في أيّ تشكيل سياسي معارض مهما كان صغيرا. وكذلك لم تعتد المعارضة المسلحة على أيّ قرية أو منطقة تقطنها أقليات بل احترمت خيارهم بالوقوف على الحياد، على عكس النظام الذي استهدفهم وشجّع طائفته على المشاركة في القتل دون محاسبة ودمّر كنائس (وفق تقديرات منظمات حقوقية محلية ودولية فقد دمّر النظام بصواريخه وبراميله المتفجرة 35 كنيسة فيما دمّرت المعارضة ثلاث)، واعتقل معارضين مسيحيين وإسماعيليين ودروز وأكراد وآشوريين ولم يحترم خصوصية أي أقلية.

خلاصة القول إنّ الدروز والمسيحيّين والآشوريين والأكراد، وغيرهم من الأقليات، لم يكونوا جزءا عضويا من النظام، وبالأساس فهو لن يقبل بهم كشركاء كاملي الحقوق، كما أنه لا مصلحة لهم باستمراره، ولم يتعرضوا إلى سوء مُمنهج من قبل المعارضة، ولذلك كان عليهم على ما يبدو أن يبقوا على الحياد لهذه الأسباب، على الأقل.

6