لا شيء غير الورقة

الخميس 2015/06/25

يأتي ابني أحيانا من المدرسة وقد تملكه رعب حقيقي. يقول وهو يلهث: كدت أن أقع تحت المطر اليوم. أتفحصه مندهشة: أي مطر؟ لم يكن هناك مطر اليوم. عن ماذا تتحدث؟

ينظر إلي باستغراب من يقول في حال نفسه “كم مرة يجب أن أشرح هذا؟”، ثم يقول: مطر المعلمة طبعا، نجوت في آخر لحظة.

ومطر المعلمة هذا، هو الطريقة التي ابتكرتها المعلمة في الفصل لعقاب الأطفال عندما لا ينتبهون للدرس أو يتكلمون كثيرا مع زملائهم، أو يعتدي أحدهم على الآخر. وهو عبارة عن ورقة علقتها في ركن عال من الفصل، مرسوم على يمينها شمس مشرقة بألوان زاهية وعلى يسارها مطر غزير داكن، يفصلهما خط طويل. الشمس مكافأة لمن يجتهد ويتحلى بسلوك منضبط أو يقوم بعمل يساعد به زميلا له في الفصل، والمطر للعقاب.

تظل الورقة معلقة طوال السنة، لا شيء غيرها، لا ضرب، ولا صراخ، ولا فصل، ولا نهر، ولا زجر، ولا اجتماع مع الأولياء. لا شيء غير الورقة. ورقة بسيطة من حجم A4، ترعب أطفالا، وتبهج آخرين.

وصدقوني حين أقول إن فكرة الوجود تحت المطر مؤلمة للأطفال بشكل لا يمكن تصوره، ومن يقع تحتها يعاني كما لو أن مطرا حقيقيا أغرقه حتى أخمص قدميه، بل ربما أكثر من ذلك بكثير، لكن رحمة البيداغوجيا الحديثة، وعلم النفس التربوي المتقدم واسعة، لأنها منحتهم إمكانية محو أسمائهم من تحت المطر إذا ما قاموا بعمل جيد، أو حازوا على أعداد متفوقة، أو أظهروا ندما وحسن نية، وتجاوزا للأخطاء.

في نهاية العام يحصل من لم يقع طوال السنة تحت المطر على جائزة قيمة وتقدير من أصدقائه ومعلمته، وفي الغالب ينتهي العام والورقة خالية من العقوبات تماما، فالمعلمة تحرص على ألا يذهب أحدهم إلى العطلة مبتلا، لأن العطلة للبهجة والمرح، والاستجمام. وهكذا تبذل جهدا مضاعفا مع من أخطأ ليصحح خطأه ويحذف اسمه، فإن لم يفعل بحثت له عن جانب مضيء تدخل منه يد العناية الإنسانية التي تمسح الذنوب وتهب المغفرة.

لا حلوى ولا أقلام للمكافأة، ولا نهر أو جزر أو إقصاء من الفصل للعقاب، إنهم لا يحصلون على شيء قيمته لا تتجاوزه، إنما على قيمة كونية رمزية، وهدية تلازمهم طويلا، فالشمس قيمة عظيمة في بلد غربي لا يراها إلا نادرا، الطفل الذي يكافأ يحصل على الشمس التي هي الضوء، والحياة والأمل والنور، والبهجة والمرح، التي تعني له يوما من اللهو والانطلاق في البارك، أو البحر أو المسبح، وتعني له فسحة على الدراجة بين الهضاب والمنحدرات، وتعني له شورتا قصيرا، وكرة وألوانا زاهية وطيارة هوائية ملونة على الشاطىء، وتعني آيس كريم وتراشقا بمسدسات الماء ولونا برونزيا أخاذا…إلى ما ذلك من الدلالات والإيحاءات. أما المطر، فهو الملابس المبتلة، وركوب السيارة بدل الدراجات الخفيفة المليئة بالحياة والحركة، وزحمة الطريق، والوصول متأخرا إلى المدرسة، وأخبار الساعة الثامنة في سيارة محشورة بين صف هائل لا أول له من السيارات الواقفة تنتظر الإشارة، وهو الشتاء، والنوم باكرا، واللعب في علية البيت بدل الحديقة،… إلخ.

عقاب إيحائي دلالي، لكنه أشد وقعا وأكثر فعالية من غيره من أنواع العقاب الكثيرة، فأنت تعاقب ذهنية طفل، وخياله، تحرمه من صورة جميلة، وإحساس لذيذ وممتع، لأنه أخطأ، مع مراعاة أنه قادر على استعادة هذا الإحساس الجميل والبهجة المسلوبة لو بذل قليلا من الجهد وتحلى بمسؤولية أكبر.

هو في الحقيقة عقاب نفسي، يشبه شعور الندم أو الذنب المخفف على مقياس السلم، ويمنح الطفل فرصة أن يتأمل سلوكه ويراجع نفسه بهدوء ومن دون الهاء وصخب، والأهم من ذلك، من دون أن يتحول إلى وضع الضحية، والدفاع عن النفس الذي يعيق أي تصحيح سلوكي أو تربوي. أطفالكم شمس الحياة وبهجة المستقبل فاعتنوا بهم.

21