سلام الآخرة كمدخل للسلام الدنيوي بين الأديان

الإنسان خير بطبعه، والأصل في الأشياء حريته في الاعتقاد والتفكير دون تدخل أو وصاية من أحد. إنها القاعدة الذهبية التي أسست لواقع الحريات والحقوق في أوروبا منذ ثورة الأنوار، تلك الثورة التي أسست لجمهوريات قوية وموحدة وعلمانية، خالية من أي مؤشر طائفي أو ديني يمكن أن يؤدي إلى اقتتال أهلي دموي مثل الذي يحدث داخل الجغرافيا العربية.
الخميس 2015/06/25
إعادة تأسيس عقلية دينية جديدة أصبحت ضرورة وجودية للمسلمين

حظيت بنقاشات حميمية مع بعض رجال الدين من مختلف المذاهب والطوائف والأديان، منهم شيوخ وقساوسة وكهان. لم أكن أرتاب في إثارة بعض الوضعيات “المحرجة” لغاية قياس حجم التّسامح داخل المؤسّسات الدينية واختبار إمكانية تحقّق مبدأ الاعتراف المتكافئ والمتبادل بين مختلف الطوائف والمذاهب والأديان. كان هناك سؤال يستهويني ويستبدّ بذهني فلا أتردّد في طرحه كلما أتيحت لي الفرصة: هل تظنّ بأنّ النّاس سيحاسبون في الآخرة على إيمانهم أم على أعمالهم؟ بمعنى، هل تكفي أعمال الخير إذا بطل الإيمان قصد النجاة من النار أم أنّ بطلان الإيمان يستوجب الجحيم الأبدي؟

بمعنى أوضح، هل بوسع الجنة أن تتسع للأشخاص “الطيبين” المنتمين إلى عقائد “باطلة” أم أن لائحة الناجين تقتصر على “الطيبين” المنتمين حصراً إلى الدين “الصحيح” والمذهب “الصحيح” والعقيدة “الصحيحة”؟ ولمزيد من التوضيح كنت أختار وضعية مسألة سهلة الصياغة واضحة البلاغة: هب أن شخصا يعتنق دينا “باطلا” أو مذهباً “خاطئا” أو يعبد إلها “زائفا” لكنه رغم ذلك أنجز أعمال خير جليلة لفائدة الجوعى والعطشى والمرضى من مختلف الطوائف والديانات وأنقذ عشرات أو مئات أو ربما آلاف الأشخاص، هل تشعر في قرارة نفسك وضميرك بأن هذا الشخص يستحقّ أن يُرمى في نار جهنّم خالداً فيها أبداً لمجرّد أن الدين الذي راهن عليه لم يكن بالصدفة هو الدين “الصحيح”؟

دعوني أخبركم بنتيجة مذهلة: معظم الأشخاص العاديين الذين توجهت لهم بهكذا مسألة، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم كانوا أميل إلى الجواب بالإيجاب، أي أن الله قد يجازي الإنسان بناء على عمله الصالح وبمعزل عن صحة أو عدم صحة معتقده، لكن في المقابل، فإن غالبية ـولربما كل- الشيوخ والقساوسة الذين أسمعتهم نفس المسألة كانوا أميل إلى الإجابة بالنفي الحاسم.

يحيلنا هذا الفارق الكبير بين تسامح الناس العاديين وتعصّب علماء الدين إلى طيبوبة الطبيعة البشرية عند جان جاك روسو، تلك الطيبوبة التي قد تفسدها الثقافة أو تبددها بعض الأنماط الثقافية. لكن، هناك قضية أخرى يطرحها روسو: من الصعب أن يتعايش شخصان بسلام كل واحد منهما يظنّ بأنّ الله ساخط على الآخر. هذه قضية واضحة.

عقاب الناس على أساس درجة إيمانهم وتدينهم هو سلب لسلطة الله وسطو على مكانته وقدسيته
وطالما الأمر كذلك، فإنّ السلام الديني أو السلام بين الأديان يستدعي من ممثلي الديانات القيام بإجراء تجديدي بسيط وجذري في نفس الآن، يتعلق بعقيدة الحساب الأخروي، بحيث يجب على الجميع أن يقتنع بأنّ الله في الحساب الأخروي الأخير لن يحاسب الناس على معتقداتهم وإنما سيحاسبهم بالأحرى وبالأولى على أعمالهم ومعاملاتهم.

إن كلا من التراث الديني المسيحي والتراث الديني الإسلامي يؤكدان بأنّ إجراء تجديديا كهذا ممكن ومتاح. والمطلوب أن ننقل مركز الثقل الديني من مجال “الإيمان الصحيح” إلى مجال “العمل الصالح”. وهنا لن نعدم وجود مستندات داخل تراث الإسلام كما في تراث سائر الأديان، ومن ذلك أنّ حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي على سبيل المثال كان يقول: المعصية نوعان، لازمة ومتعدية، فأما اللاّزمة فإنها تخص علاقة الإنسان بالله، وفيها يملك الله حق الشفاعة، من باب ترك الصلاة مثلا، لكن المعصية المتعدية تخص علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، من باب أكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحو ذلك، وهي أشدّ ضراوة. لأنّ الذي يملك حقّ الشفاعة فيها ليس الله بل ذلك الإنسان المظلوم نفسه، أي الضحية. سواء كانت الضحية شخصا واحدا أم كانت أشخاصا يعدّون بالآلاف وربما بالملايين. أللهم إذا كان الله ظالماً للنّاس، وهذا محال.

وبلغة قريبة من القانون الوضعي الحديث، إذا أنا لم أقم بواجباتي في الصلاة والصوم، أو لم أؤمن أصلا بوجود الآخرة، فهذا حقّ الله وحده لا شريك له في الحق، ووحده الله من يملك حق “المتابعة” أو “الشفاعة”، أما إذا أنا ظلمتُ إنساناً آخر فسيكون قرار “المتابعة” أو “الشفاعة” من حق ذلك الإنسان المظلوم، والذي قد يعدّ مرة أخرى شخصا واحدا، وقد يكون أشخاصا يعدّون بالآلاف وربما بالملايين في بعض الحالات.

إن ما تفعله الدول الإسلامية التي تعاقب مواطنيها بتهمة الامتناع عن الصوم أو ترك الصلاة أو بتهمة “الردة” أو “زعزعة العقيدة” أو الخروج عن الدين الرّسمي أو المذهب الرّسمي، أو نحو ذلك، أنها تسلب الله حقه وتنتحل صفته وتحتل مكانته في قضية ليس فيها من طرف متضرر، اللهم إذا افترضنا أن الطرف “المتضرر” هو الله سبحانه. وفي هذه الحالة فليس غير الله من يملك حق “المتابعة” وحق “الشفاعة” وفق معايير “المعصية اللاّزمة” كما يشرحها أبو حامد الغزالي، أي المعصية التي ليس فيها من “طرف مدني”، فأمرها موكول إلى الله حصراً.

ما تفعله الدول الإسلامية التي تعاقب مواطنيها بتهمة الامتناع عن الصوم أو ترك الصلاة أو بتهمة \'الردة\' أو \'زعزعة العقيدة\' (..) أنها تسلب الله حقه وتنتحل صفته وتحتل مكانته

غير أن بعض التيارات المسيحية سبق لها أن ذهبت إلى أبعد من ذلك. فقد انشغل القس المصلح جوهاشيم دو فلور (ولد في 1132) بمحاولة بلورة فكرة جديدة في مسألة الخطيئة والعقاب الأخروي، وهي الفكرة التي سيطورها القس الباريسي الشهير أموري دو بين -وقد سمي أتباعه بالأموريسيين قبل إبادتهم الكاملة- هؤلاء عملوا على تطوير رؤية لاهوتية جديدة قائمة على عقيدة الافتداء. والمقصود، إذا كان المسيح قد افتدى البشرية جمعاء، فلعله افتداها مرّة إلى الأبد، وليس مطلوباً منا أن نخلص أنفسنا مرّة أخرى، فلا حاجة من ثم لوجود جهنم ولا حاجة لبعض الطقوس وضمنها طقوس التعميد طالما البشرية قد استردّت براءتها الأصلية وصارت بلا خطيئة تُذكر.

ويزخر “الإسلام الشعبي” عبر محكياته بإرهاصات أولية لفكرة مفادها أنّ جميع أعضاء الجنس البشري سيدخلون في آخر العهد إلى الجنة، طالما لا يوجد إنسان ليس في قلبه ولو مثقال ذرّة من الخير. وكل ما في الأمر أنّ هناك من سيمضي مرحلة مؤقتة من التطهير في الجحيم، بل لعلها مرحلة رمزية في تقدير البعض (ابن عربي مثلا)، طالما أن أصل الإنسان هو الجنّة، فيها خلق أوّل الأمر وإليها سيعود آخر الدّهر.

وأما بعد، فإنّ بسطاء المتدينين في العالم أجمع يتقبّلون مثل هذه الرّؤية الأخروية “السعيدة” بنحو حدسي وفطري طبيعي، غير أن غالبية المتسلطين على الدين والمتسلطين باسم الدين أشخاص ضيقو الصدر، منقبضو الروح، مفعمون بالغيرة والغيظ والكراهية، مهووسون بالشماتة في المصائب والتشفي بأهوال الآخرين. والمشكلة كل المشكلة أنهم لا يملكون من حرفة أخرى غير هذه الحرفة.

13