تونس: الاستثناء المقلق
تمردت تونس على ربيعها الذي كان يفترضُ أن يشبه ربيع الآخرين. من عتمة ما تعيشه المنطقة عَظُم الوميض التونسي حتى أنتج نورا لا نعرفُ كيف نجا من ظلامية منهج ومنطق يسود المنطقة منذ سنين. ربما نجتهد في تفسير اللحظة “البوعزيزية” التي ولَدت هذا التسونامي في كل المنطقة، وربما ننهمكُ في فك طلاسم الوصفة التي أخرجت تونس والتونسيين من أتون ما تشهده ليبيا واليمن وسوريا والعراق.. إلخ، إلا أن الاستثناء التونسي، الراهن خصوصا، يبقى عصيا على التعقلن في زمن الجنون.
تنحدر فرادة تونس من حكاية الاستقلال الذي، ومن خلال البورقيبية، أسس لنظام سياسي اجتماعي تقصد ألا يشبه مزاج المنطقة. قدم الحبيب بورقيبة، منذ صيف 1957، خلطة تحرت جر البلد نحو حداثة المستعمر الراحل نفسه. في تلك الخلطة تناقض بنيوي ما بين مفهوم الاستقلال ونزوعه إلى القطع مع الماضي، ومفهوم العصر المعترف بأن حقبةَ الاستعمار جزء من هوية تونس وجب الدفاع عن خصالها. وإذا ما كان التمرين مستحيلا لا يستقيم مع فكرة الثورة والنضال على ما شاع في تلك الفترة، وإذا ما كانت تجارب المنطقة أفرجت عن دموية وتوتاليتارية وشعبوية سوقية، فإن النموذج التونسي عكس سياقا من خارج أي سياق، وأتى بلغة ولهجة تتحدران من عقلانية “ديكارتية”، متخلصتين من أي أيديولوجيا نافرة من مزاج التونسيين.
من الجائز الإقرار بأن كاريزما الزعيم الحبيب بورقيبة ألقت بظلالها على الوجهة التي راح البلد نحوها، لكن منطق الأشياء يفرض التسليم بأن رجل الاستقلال لم يكن ليفرض رؤاه على شعب آخر غير ما هو عليه في تونس، ذلك أن في الطينة التونسية، التي أنتجت بورقيبة نفسه، ما يجعلها بيئة حاضنة لخطاب الزعيم وفرادته.
في لحظة انفجار الشارع التونسي بحدث محمد البوعزيزي، يوم 17 ديسمبر 2010، بدا أن الحراك التونسي يشبه تونس. في جلبة الشارع ما يذكّر التونسيين بأحداث مماثلة شهدها البلدُ بقيادة نقاباته ومعارضيه لتصحيح الأداء البورقيبي نفسه (أشهرها ثورة الخبز في يناير 1984). يعترف المراقبُ للشأن التونسي بالتقدير الذي يكنّهّ التونسيون لـ“المجاهد الأكبر” وخياراته الداخلية والخارجية التي لم تذهب مذهب ما شاع من ناصرية وبعثية ويسارية. يلاحظ المراقب لتاريخ تونس أن الناس خرجوا على زعيمهم عدة مرات لأسباب تونسية تتعلق بالشأن التونسي، ولم يهتزوا لمزاج عربي بثته الناصرية غداة خطاب أريحا (مارس 1965).
في لحظة انفجار الشارع التونسي بحدث محمد البوعزيزي، بدا أن تونس تستوحي حراكها من نفسها وتاريخها وثقافتها وعاداتها. بدا خروج زين العابدين بن علي والتدابير السياسية والعسكرية والإدارية التي اتخذت لمقاربة الأزمة صادرة عن مؤسسات دستورية عريقة لا تربكها الزلازل. بدت الشخصيةُ التونسية ناضجة عاقلة محصّنة من الإصابة بالحمى التي انتشر وباؤها في ميادين الربيع القريبة والبعيدة.
اعترف العالم، كما اعترف التونسيون بأن إدارة عتيقة مخصّبة بالخبرة حمت تونس من الأعراض الجانبية الخطيرة لثورة التونسيين. تذوّق التونسيون حضور الدولة وأدواتها في يوميات أزمتهم. بقيت البنى التحتية تعملُ لا تشوبها شائبة في عزّ الفوران الشعبي المكتسح للشوارع. حتى فواتير الجباية دأبت تصل إلى المواطنين، بحيث تصرّف الجميع، موالاة ومعارضة، تحت سقف الدولة التي لا تغيب، وهو تماما عكس ما حصل في ميادين الصراع العربية الأخرى.
منذ بورقيبة انتهاء بقائد السبسي حافظت تونس على العقلانية ديدنا للسلوك السياسي. لم تمارس تونس علمانية أتاتوركية فجّة، لم تلتصق بخيارات غربية حداثوية متقدمة، ولم تركب موجات صوتية لتحرير فلسطين. هي هذه الوسطية التي تعبّر عن اعتدال غير مصطنع، وعن مقاربة ماهرة في إدارة شؤون التونسيين في تونس، كما إدارة شؤون تونس مع العالم.
لا يمكن مقارنة الاستبداد التونسي بما راج من استبداد في المنطقة العربية. ولئن أخذنا بعين الاعتبار أن الاستبداد هو ما ساد بلدان المنطقة بمناسبة استقلالها، فإن الحكم التونسي بطبعتيْه، بورقيبة وبن علي، حافظ على مستوى من الرعونة يكاد يكون نسبيا في بيئة ما مورس في بلدان كليبيا وسوريا والعراق. تجري تلك المقارنة وفق غياب لأي نموذج ديمقراطي في العالم العربي، باستثناء لبنان لأسباب تتعلق بخصوصية البلد.
في تمردِ تونس – الاستقلال على المزاج العربي، ما يشبهُ تمردها الحالي على هذا المزاج. تأسس مشروعُ بورقيبة على بناء الدولة عمادا للوطن، فلم يتخيّل التونسي نفسه دون هذه الدولة. وحين ثار التونسيون على بن علي وقبله على بورقيبة، فإنهم ثاروا على الحاكم لا على الدولة. تتمرد تونس اليوم من خلال هذه الدولة وشروطها، التي لم تعد في العصر الراهن، إلا دستورية ديمقراطية، خامتها عقد اجتماعي يخرج عن إجماع يتناسل من حوار جامع. هي وصفة ناجعة ذات فعالية مضمونة، تسري على سياقات تتجاوز بلد المنشأ تونس.
هذا ما يريدُ الإرهاب قتله في تونس. تعافت الدولة الحديثة من صراع مع آفة الإسلام السياسي من حيث أنه المصدر الوحيد للحكم والتشريع. حتى حركة النهضة، بما هي من صدى محلي لفكر الإخوان المسلمين، “تَتَوْنست” (ربما تأثرا بالهزيمة الإخوانية المصرية)، بمعنى أنها استسلمت لشروط إنتاج السلطة في تونس بغضّ النظر عما يُوحى به من خارج الحدود. على أن الجهادية التونسية، سواء من خلال الأعداد القياسية التي تقاتل في الخارج (2800 يقاتلون في سوريا، حسب الداخلية التونسية)، أو تلك الناشطة في الشعانبي على الحدود مع الجزائر، وصولا إلى تمددها نحو الداخل، على ما شهده حدث متحف باردو، فإنها، باتت أداة مسخّرة بقوة، لتدمير النموذج التونسي، من حيث أنه ترياق قابل للانتشار ليشكّل أساسا لمعالجة آفات المنطقة.
ربما على التونسيين، دون غيرهم، كشف “الخلل” داخل الأجهزة الأمنية، حسب تعبير الرئيس الباجي قائد السبسي، والذي أتاح تنفيذ المجزرة. ربما على التونسيين، دون غيرهم، الاهتداء إلى أجوبة تفسّر رواج التطرف الديني لدى شرائح من مجتمع البلد في عصر ما بعد بن علي. وربما على التونسيين، حكومة وأحزابا وتيارات ومنظمات مجتمع مدني، أن يميطوا اللثام عن آليات ترعرع أصولية دينية متطرفة في بلد تعلمَن فيه النظام السياسي والتربوي والاجتماعي منذ الاستقلال. واضح أن المسألة لا تتعلق بأزمة اقتصادية أو عوز اجتماعي، ذلك أن التطرف لطالما جنّد في صفوفه أبناء العائلات الميسورة، كما الأقل يسرا.
في موسمِ منطق الميليشيات الذي يروجُ في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا، تبدو الدولة ملاذا وحيدا ومنظومةَ تعايش وحيدة وسقفَ وحدة وحيدا. في موسم الخطاب الديني والمذهبي المتمثّل في الإسلام السياسي بكل طبعاته، ابتداء من المسماة “معتدلة” وانتهاء بالمسماة “إرهابية”، تبدو الوسطية والعقلانية منهجا وفلسفة وعبقرية لإدارة التعقّد في مجتمعاتنا ومقاربة التنوّع في معتقداتنا. ومن لا يريد للدولة والعقلانية أن تسودا، ليعتاش من تقليعة الفوضى وعبث الميليشيات، فله ثأر كبير ضد تونس، ومن دفع بالإرهاب مؤخرا إلى أحضان العاصمة، يخطط لحرب تدميرية تطبّع الحال التونسي بحال البراكين في كل المنطقة.
لطالما اعتبرت أدبيات التطرف أن الديمقراطية هي “بدعة” غربية لا تنطبق على بلاد المسلمين. فالحاكمية لله وليست للشعب، وبالتالي ليست للبرلمان الذي أعلن بيان “داعش” أنه كان المستهدف في باردو. وفي انتماء الجهادية إلى سلف لا يمتّ بصلة لراهن، فإن تلك الجماعات تمقت حياة العصر، وتقتلُ كل فرح تمثله سياحة وسواح.
من أراد قتل السياح الأجانب في متحف باردو، أراد أن يقتل إيمان العالم بالاسثناء التونسي، كما إيمان التونسيين بتجربتهم الذاتية. تستهدفُ العملية القذرة قلب المؤسسات الدستورية التونسية، كما ضربَ القطاع السياحي وما يعنيه ذلك للاقتصاد التونسي وعافية التونسيين (400 ألف يعملون في السياحة في تونس). وإذا ما كانت تونس عدوا للظلاميين الجدد، فإن الحرب طويلة، لا تنفصل عن تلك التي تُخاض في كل الساحات ضد الإرهاب.
يعتبرُ الاتحاد الأوروبي أنه المستهدف الأول من عملية باردو (القاعدة نفذت عام 2002 تفجيرا انتحاريا في مدخل كنيس يهودي في جربة أودى بحياة 14 سائحا غالبيتهم من الألمان). الهدف أوروبي في تونس، ومعظم الضحايا أوروبيون يسقطون في تونس. أوروبا مستهدفة من جديد، وهذه المرة مباشرة (بعد باريس وكوبنهاغن)، بحيث باتت أوروبا ذاهبة إلى تدبير نوعي يردّ عنها أيضا ما يقذفُ به العبث في ليبيا (حيث تلقى منفذا هجوم باردو تدريباتهما) من أخطار لا يبعدها إلا الفاصل المائي للبحر المتوسط.
قد تمثّل عملية باردو فائضَ قيحٍ يخرج من ورمٍ بات يهددُ كل منطقة شمال أفريقيا. وقد تجوز مراقبة التطورات المقبلة في ليبيا، كما تطور الموقف الجزائري (المتحفّظ على أي تدخل خارجي)، كما حراك الأوروبيين بشأن أمنهم، لاستنتاج مآلات ما بعد الجريمة. يبقى أن تونس تمثّل للعالم، بالمعنى الجيوسياسي، كما للتونسيين، بالمعنى الوجودي، حالة استثناء وجبت صيانتها والدفاع عن فرادتها.
صحفي وكاتب سياسي لبناني